مذكرات جاك شيراك: أنطولوجيا السيرة والسياسة

تاريخ الإضافة الإثنين 28 أيار 2012 - 6:36 ص    عدد الزيارات 659    التعليقات 0

        

 
قصي الحسين

مذكرات جاك شيراك: أنطولوجيا السيرة والسياسة

 

 

في مذكراته(*) لا يشذّ الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك عن قاعدة ذهبية اعتمدها رجال السياسة عامة، والفرنسيون منهم على وجه الخصوص، بإجراء جردة عن أحداث شاركوا في صوغها، فساهموا في الكشف عن بعض الأسرار الدفينة، وربما ساهموا أيضاً في تصفية الحسابات التي كانت مؤجّلة. هذا ما فعله الجنرال ديغول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وغيرهم، وهذا ما قام به جاك شيراك أيضاً.

في مذكراته التي تضم 24 فصلاً وهي السنوات الثلاث والستون الأولى من حياته، منذ ولادته عام 1932 حتى انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1995، يتطرق لأهم الأحداث التي عاشها فأثّرت في مساره، وشكّلت أنطولوجيا لحقبة المسؤوليات السياسية حتى وصوله الى ماتينيون على رأس الوزارة الأولى، تحت حكم جيسكار ديستان، ثم تحت رئاسة فرنسوا ميتران.
ألمح الرئيس شيراك في بداية المذكرات إلى مراحل حياته الأولى ومساراتها الانطولوجية وكيف نشأ وترعرع في ظل أسرة متواضعة حتى ظفر بعدها بأعلى المسؤوليات في الدولة. في التفاتة منه خاصة الى شريكة حياته برناديت التي التقاها أثناء الدراسة في معهد العلوم السياسية والتي تردّد أهلها في تزويجها من طالب "يساري" متمرد ليست له أية وضعية اجتماعية، تبرز صورة الزوجة الناصعة.
من مرحلة شيوعية، حيث كان بائعاً لجريدة "لومانيتيه" الناطقة باسم الحزب الشيوعي. إلى زواجه عام 1956، وحتى اليوم لم تفارقه برناديت: "برناديت كانت دائماً أساسية، أعرف ما أنا مدين لها في حياتي السياسية. لم تتأخر يوماً في بذل مجهوداتها لمساعدتي منذ أول انتخابات خضتها بمنطقة الكوريز، ترافقني في كل مكان، في المقاهي والمزارع؛ وكذلك بمدينة باريس. ساعدتني في الميدان من منـزل لآخر من أجل الانتصار في الدوائر الصعبة؛ وفي ماتينيون تحمّلت مسؤولية زوجة رئيس الوزراء... لكن آراءها ونصائحها وانتقاداتها كانت دائماً منيرة لي في القرارات التي آخذها، وحول الرجال الذين يجب أن أثق فيهم والذين عليّ الحذر منهم...".
كان على  شيراك أيضاً في أنطولوجيا مذكراته أن يتحدث عن مرحلة تجريبية صعبة في حياته لأبٍ عانى فقدان ابنته لورانس في ريعان صباها بعد أن أودى بها بسرعة مرض غريب عام 1973. إنه جرحه الملازم الذي يحادثه كل يوم، فيتحاشى البوح به بألم الأب وكبريائه.
يعترف شيراك بفضل الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو عليه. فيصفه بـ "الأب الروحي" ويقول: "كان رجلاً ذا ثقافة استثنائية. وكان في نظري يرمز الى فرنسا تماماً كما الجنرال ديغول، وأرى أن نظرتيهما الى فرنسا لم تكونا متعارضتين. بل إن نظرة بومبيدو كانت أكثر حسماً وأكثر حميمية، وهي في آن واحد متجذرة في التقاليد ومنفتحة على الحداثة بكل أشكالها". فقد تقدمت العاطفة عند شيراك على ما عداها.
وضمن سلسلة البورتريهات التي خصصها للزعماء السياسيين الذين عمل معهم، ثمة مفاجآت نشتمُّ فيها رائحة تصفية الحسابات مع الماضي، وخصوصاً مع الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان ومع ادوار بالادور. فالعلاقة بينه وبين جيسكار كانت دوماً متوتّرة. فهو لا يفهم أساليبه الملتوية: "يقول شيئاً ويقوم بنقيضه" يقول شيراك. "أكد لي جيسكار ذات مرة أنه ألقى بالضغينة إلى النهر، ولربما كان النهر في ذلك اليوم جافاً، على اعتبار أن الضغينة بقيت عنيدة وسخية في أعماقه". وهذا التوتر الدائم بين الرجلين جعله يستقيل من رئاسة الوزراء عام 1976 ويؤسس "حزب التجمّع من أجل الجمهورية" الذي نجح في أول إنجاز له في تتويج جاك شيراك عمدة على باريس، فغدت بذلك الطريق سالكة إلى الاليزيه: "حين اجتزت عتبة قصر البلدية، راودني شعور، مصحوب بارتياح عارم، شعور أني لأول مرة في حياتي لن أكون الرجل الثاني".
أما ادوار بالادور فيعتبره من فصيلة الخائنين الذين ما أن تُكرمهم حتى ينقلبوا عليك ويتحولوا "حيوانات مفترسة". "وضعت ثقتي في ادوار بالادور. لم أصدق بأن رئيس الوزراء كان قد شرع في خيانة تعهداته. وانجلت الأمور بشكل نهائي في الحادي عشر من ايلول من عام 1993 بعد مقابلة جمعتنا وجهاً لوجه. في نهاية اللقاء وأنا أنزل الدرج، إذا ادوار بالادور ينادي عليّ، ولما التفت خاطبني: جاك، لا تنخدع. لن أكون أبداً رئيس وزرائك. منذ ذلك التاريخ لم نحادث بعضنا ثانية".
وعن الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي نرى شيراك لا يتوقف كثيراً عند دقائق شخصيته والمفاصل المهمة في سلوكاته الأخلاقية أو السياسية حتى لا يحرج الرئيس الحالي. لكنه أشار إليه حين عرفه قبل 1995: "إنه رجل لا يكف عن وضع نفسه في مقام من هو ضروري. رجل عصبي، على عجلة من أمره، شغوف بالحركة ومتميز بحس التواصل". لكن المفاجأة الحقيقية جاءت من البورتريه الذي رسمه شيراك لفرنسوا ميتران، إذ أنه بكلمات رقيقة تتضمن الكثير من الإعجاب والاحترام تحدث عن شخص ذكي، فطِن، ولا يتردّد في التعبير عن مودّته له بعبارة "برافو أيها الفنان".
وانطولوجيا الذكريات تسترجع عند جاك شيراك الرجل والسياسي، علاقاته مع شخصيات دولية. وكثير منها أفصح عن أحداث وشت بها السياسة الخارجية، ومنها ما يتصل بالعالم العربي. يقول إن علاقاته بالعالم العربي ابتدأت في الجزائر الفرنسية، حيث كان عليه أن يقضي فيها الخدمة العسكرية بين عامي 1956 و 1957. ونراه يسارع للتشديد بأنه لم يكن يقترف أي عنف أو اعتداء على الجزائريين، وإن يكن هذا "لا يعني أن هذا النوع من التعامل لم يكن موجوداً" .
وفي فصل آخر، يراجع شيراك واقعة تتعلق بالهجوم الأميركي على ليبيا. ففي نيسان من عام 1986 حين كان شيراك رئيساً للوزراء في حكومة التعايش أثناء فترة رئاسة فرنسوا ميتران، طلبت الولايات المتحدة منه السماح لطائراتها بعبور المجال الجوي الفرنسي لقصف ليبيا. يقول شيراك: "كانت الحكومة الأميركية عازمة على إلحاق العقاب بالعقيد القذافي الذي حملته المسؤولية الأولى للعمليات الإرهابية التي طاولت بعض مواطنيها. في 11 نيسان هاتفني الرئيس ريغان ليقول لي: قررنا تصفية القذافي وعليه نود أن تعبر طائراتنا المجال الجوي الفرنسي. صدمت بهذا الخبر وبجرّ فرنسا في عملية لم تستشر فيها. لذا رفضت في الحين طلبه، وأجبته: ليس من الوارد جر فرنسا إلى قضية من هذا القبيل. زيادة على أن فرصكم لتصفية القذافي ضئيلة. من النادر أن تنجح مثل هذه العمليات". ولما أخبر شيراك الرئيس ميتران بفحوى الحديث الذي جرى بينه وبين ريغان، أجابه: "أوافق مئة في المئة، لكنه كان عليك استشارتي قبل ذلك".
في أنطولوجيا السيرة يخص شيراك الرئيس العراقي صدام حسين بفقرة تشف عن علاقته الحميمة بالعالم العربي آنذاك. وعن سياسة التوازن التي سعت فرنسا إلى الحفاظ عليها دائماً في منطقة الشرق الأوسط، يقول عن التوازن بين إيران تحت الشاه والعراق تحت صدام حسين: "بفضلي، دخلت فرنسا في مفاوضات مع العراق لتوقيع اتفاقيات تعاون في مجال الطاقة وفي الميدان الحربي. الشيء الذي قادني إلى الالتقاء بالرجل الأول للنظام العراقي، صدام حسين ثلاث مرات". ويتابع قائلاً: "بما أن صدام كان حريصاً على التحرر من الوصاية السوفياتية، فقد راهن على فرنسا لتعزيز استقلالية بلاده، وعليه ركز كل مجهوداته ليبرهن لي عن صداقته. بدا لي الرجل ذكياً ولا يخلو من دعابة، بل أكثر من ذلك بدا لي شخصاً مستحباً. استقبلني في بيته، وعاملني كصديق شخصي. كانت حرارة ضيافته واضحة. أما التبادل الذي تم بيننا فلم يخل من ود. كانت لي باستمرار سهولة كبرى في التواصل مع رؤساء الدول العربية، لأن هؤلاء على النقيض من المسؤولين الغربيين، يتحلون معي بالصراحة".
ويكشف الرئيس الفرنسي السابق سراً لا يعرفه الكثيرون وهو أن الرئيس صدام حسين الذي طرد الامام الخميني من منفاه العراقي، نصح شيراك، عن طريق رسالة نقلها إليه السفير العراقي في باريس، ألاّ يمنح حق اللجوء السياسي للإمام الخميني. وأتى تحذير صدّام على الشكل التالي: "احذروا جيّداً، اتركوه يتوجه إلى ليبيا، لأن ما سيصرّح به في فرنسا سيكون له صدى دولي مدوّ، في حين أن ما سيقوله في ليبيا لن يسمعَه أحدٌ". ويعترف شيراك أنه نقل التحذير إلى الرئيس فاليري جيسكار ديستان غير أن هذا، وكان رئيس البلاد، فعل عكس ذلك. كان هذا آخر اتصال مع صدام، يقول شيراك. ويضيف: "حين علمتُ، بعد سنوات، الجنون القمعي الذي استولى على الرئيس العراقي، قطعت، بشكل نهائي، كل علاقاتي الشخصية معه. لكن هذا لم يمنعني من الإحساس بالصدمة من النهاية التي اختيرت له. هذا الإعدام الليلي الذي تم تنفيذه بالوحشية نفسها التي اتُّهِم باقترافها والتي من أجلها تمّت إدانته".
وينطوي الكتاب على فصول مشوقة تشي بقدرة الرئيس شيراك على الانفتاح على الآخرين. فهو لا يخفي مثلاً عشقه لليابان، حيث يتهمه الآخرون بأن له ابناً هناك، وأن له حسابات مصرفية وأموالاً في مصارف يابانية، وهو ما يجرحه ويؤلمه.
هل مذكرات الرئيس جاك شيراك بعد ذلك تستحق أن تشكل أنطولوجيا السيرة والسريرة للسياسي على الحافة!!

(*) مذكرات شيراك: ترجمة الدكتور جان جبور. هيئة ابو ظبي للثقافة والترجمة (مشروع كلمة) 2012.

استاذ في الجامعة اللبنانية

 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,792,375

عدد الزوار: 6,966,387

المتواجدون الآن: 71