ذكرى حرب أكتوبر... نصف قرن على «يوم المفاجأة» العربي..

تاريخ الإضافة السبت 7 تشرين الأول 2023 - 6:16 ص    عدد الزيارات 326    التعليقات 0

        

ذكرى حرب أكتوبر... نصف قرن على «يوم المفاجأة» العربي..

الشرق الاوسط...قبل نصف قرن، وتحديداً في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، اهتز العالم على وقع «المفاجأة العربية» التي طالما استبعدتها إسرائيل وحلفاؤها. فالمصريون والسوريون الذين هُزموا قبل 6 سنوات، أخذوا المبادرة وكسروا صمت السلاح، وفتحوا الباب أمام حرب غيّرت، ولا تزال، بتداعياتها وجه المنطقة. من فوهات البنادق ودانات المدافع، ومن أعماق آبار النفط إلى قمم سيناء والجولان، تبلور القرار العربي في لحظة نادرة وانطلق الجنود لخوض المعركة المنتظرة. لم تكن ثمة شرعية يحتاج إليها الجنود، فقط انتظروا الأمر ببدء المعارك ليخوضوا مواجهتهم على الأوجه كافة. لكن المعارك العسكرية، باعتبارها - بدرجة ما - صورة من صور المفاوضات السياسية، لم تكن فقط في دروب سيناء أو مرتفعات الجولان. كانت هناك اجتماعات عاصفة واتهامات متبادلة بالمسؤولية والتقصير ولملمة الجراح التي فتحتها المبادرة بالقتال، وصراع بين القطبين الأميركي والسوفيتي على تعزيز الوجود وإثبات النفوذ. وفي محاولة لفهم ما جرى في عواصم عدة، وعبر مستويات مسؤولية مختلفة، تنشر «الشرق الأوسط» على مدى يومين ملفاً خاصاً عن «حرب أكتوبر»، متضمناً إطلالة واسعة على قصة لا تزال تمثل لحظة فارقة في الوجدان العربي.

ما بعد أكتوبر 1973فخر... ومعاهدات... وانتهاكات..

الشرق الاوسط...عندما كان الجنود المصريون يعبرون قناة السويس، ونظراؤهم السوريون يقتحمون مرتفعات الجولان، بعد ظهيرة يوم السادس من أكتوبر عام 1973، ربما لم يُدر في خلدهم تلك الحسابات المعقدة والتحولات غير المسبوقة التي ستلي المعارك العسكرية. لكن هذا ما حدث على أي حال -بدرجات متفاوتة- في ساحات السياسة والدبلوماسية، لتدخل المنطقة في حقبة «ما بعد أكتوبر» منعطفاً جديداً تقاطعت فيه مصائر العرب مع استراتيجيات الدول الكبرى. واليوم وبعد نصف قرن على «يوم المفاجأة» العربي لإسرائيل، تبدو صورة الحدث منقسمة بين فخر وطني لا يزال راسخاً في الأذهان، ومعاهدات لافتة تضمن لها القوى الكبرى السريان. وبين هذا وذاك، انتهاكات واعتداءات تخبو حيناً وتتفجر أحياناً. تابعوا تغطية «الشرق الأوسط» الخاصة والمتواصلة لذكرى مرور نصف قرن على حرب أكتوبر، والتي تركز في هذا الجزء على رصد وتحليل التطورات التي أعقبت المواجهات العسكرية.

إسرائيل درست «ضربة استباقية» لمصر وسوريا قبل هجومهما بساعات

وثائق رسمية تكشف ما دار في تل أبيب خلال أكتوبر 1973

الشرق الاوسط...تل أبيب: نظير مجلي... قبل خمسين عاماً، وتحديداً في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، اجتمع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، دافيد العزار (1972: 1974)، مع رؤساء تحرير الصحف العبرية وطمأنهم: «لن تنشب حرب في القريب... بإمكانكم النوم بهدوء». نام الصحافيون فعلاً بهدوء عدا واحد، هو رئيس تحرير صحيفة «معاريف»، اريه ديسنتشيك؛ إذ كان مراسله العسكري، يعقوب ايرز، واثقاً من أن الحرب على الأبواب، والسبب أن له شقيقاً يخدم في الجيش برتبة مقدم في سلاح المدرعات، وكان يرصد التحركات المصرية على الطرف الغربي من قناة السويس، وأبدى اقتناعاً تاماً بأن هذه التحركات ملائمة للإعداد لحرب قريبة، وليس لمجرد التدريبات. قرر ديسنتشيك أن ينشر تغطية بروح مخالفة لما أبلغهم به رئيس الأركان، فأعد الصحافي ايرز خبراً بعنوان «تحركات مشبوهة للجيش المصري»، تحدث فيه عن حشود مريبة للدبابات وبطاريات الصواريخ المصرية وحركة زائدة للطائرات في الجو، واختتمه بجملة يقول فيها: إن «الجيش الإسرائيلي يقظ إزاء هذه التحركات ويقف أمامها بجهوزية عالية»، وأرسل الخبر إلى الرقيب العسكري الذي شطب السطور كلها تقريباً باستثناء الجملة الأخيرة. بعد 22 عاماً من تلك الواقعة وفي عام 1995 شغل ايرز منصب رئيس تحرير الصحيفة، فطبع نسخة من الورقة التي كَتب عليها الخبر مع ما تم شطبه من الرقابة العسكرية وعلّقها على جدار خلف مكتبه، وحرص ليس فقط على التذكير بإنجازه الصحافي، الذي قمعته الرقابة، بل اهتم دائماً بأن يعتذر للجمهور لأنه التزم بالقانون وقدّم الخبر للرقابة، ولم يتمرد عليها في ذلك الوقت. الواقعة السابقة واحدة من الحكايات المنسية في الحلبة السياسية الإسرائيلية، لكنها تعود هذه الأيام بقوة، بعدما قرر الباحثان أفرايم لبيد (عمل ناطقاً بلسان الجيش «1984: 1989»)، ورون جبيان (خدم في دائرة الناطق باسم الجيش 2016: 2022) تدريسها في كليات الصحافة، وفي إطار القرار الإسرائيلي الرسمي الإفراج عن كمية كبيرة من الوثائق السرية عن حرب أكتوبر (أو «يوم كيبور» كما اُصطلح على تسميتها إسرائيلياً)، أعدّا دراسة عن دور دائرة الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي إبان تلك الحرب.

وثائق إلى العلن

الحكومة الإسرائيلية أيضاً كانت اتخذت قراراً قبل ثلاث سنوات بالإفراج عن غالبية الوثائق الخاصة بحرب أكتوبر، عندما تحلّ الذكرى الخمسون لها، وفي مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي، وبعد فرز المواد ومعالجتها فنياً ومراجعتها أمنياً، نشر أرشيف الدولة الإسرائيلية محتويات 1400 ملف للوثائق، ونحو 1000 صورة، و850 تسجيلاً صوتياً ومقطع فيديو، وأكثر من 250 ملاحظة مختصرة. وتم الكشف كذلك عن دفتر يوميات مكتب رئيسة الوزراء، غولدا مائير، قبل وخلال الحرب وما بعدها وحتى اتفاق فصل القوات عام 1974، وتمحورت اليوميات حول الجوانب السياسية والعسكرية والاتصالات الدبلوماسية الدولية والإقليمية التي أجراها ديوان رئيسة الوزراء حينها، حسبما وثّقها إيلي مزراحي الذي شغل منصب مدير الديوان، وجاء ذلك في 3500 ملف تحتوي على مئات آلاف الصفحات. «الموساد» الإسرائيلي أيضاً أصدر لأول مرة في تاريخه كتاباً، وتطرق إلى ما قبل وأثناء وبعد حرب عام 1973، تحت عنوان «يوماً ما... حين يكون الحديث مسموحاً». وكما جرى سابقاً، عكست الوثائق المواقف المتناقضة التي عبّرت عنها مختلف الأجهزة التي لعبت دوراً في حرب أكتوبر، إزاء ما يعرف في إسرائيل باسم «المحدال»، وهي كلمة عبرية تعني «فساد الإهمال الكبير»، والمقصود بذلك أن إسرائيل فوجئت بالحرب نتيجة إهمال المسؤولين، الذين سيطرت عليهم فرضية خاطئة، مفادها أن العرب المكويين بنار هزيمة 1967، لن يجروؤا على محاربة إسرائيل. لكن وكما هو معروف لدى كثيرين، فقد تشكلت بعد الحرب لجنة تحقيق رسمية (عُرفت بلجنة أجرانات) انتهت إلى تحميل رئيس أركان الجيش دافيد العزار، وغيره من الجنرالات مسؤولية الإخفاق، وتمت تبرئة القيادة السياسية تقريباً. وصحيح أن الظروف السياسية الراهنة في إسرائيل ألقت بظلالها على طريقة تلقي البعض للوثائق إلى حد تصوير موافقة حكومة نتنياهو على نشرها بأنها «محاولة لتقويض مكانة الجيش، وغيره من أجهزة الأمن» التي تتخذ موقفاً سلبياً من خطة الحكومة للانقلاب على منظومة الحكم والجهاز القضائي؛ لكن الوثائق مع ذلك تكشف عن أمور أخرى لا تقتصر على تصفية الحسابات.

الخطة معنا

يبدو أن المعلومات الإسرائيلية عن الحشدين المصري والسوري قبل بدء الحرب تحطمت على صخرة «الغرور» في تل أبيب؛ هكذا تشي وثيقة عن اجتماع عُقد قبل بدء الهجوم المصري - السوري؛ إذ أفاد رئيس الاستخبارات العسكرية إيلي زعيرا خلال جلسة مشاورات مع رئيسة الحكومة، قبل 28 ساعة من الحرب، بأن لديه نسخة كاملة من خطة الحرب التي أعدّها الجيش السوري ضد إسرائيل، وتلخيصاً لخطة الحرب التي أعدّها الجيش المصري.

رصدنا تحركات المصريين والسوريين... لكنهم يخافوننا تماماً

زعيرا

واستعرض زعيرا معلوماته عن أن «سوريا دخلت حالة استنفار وطوارئ منذ الخامس من سبتمبر (أيلول) (1973) وهي تخطط لاحتلال الجولان، ودفعت سربين من طائرات سوخوي من المنطقة (تي 4) إلى قرب دمشق؛ ما يعني أنهم ينوون قصف العمق الاسرائيلي، وهم يديرون تدريبات، وفي مصر تمت زيادة بطاريات الصواريخ على خط القناة من 300 الى 1100». ومع ذلك، عاد قائد الاستخبارات العسكرية ليقول إنهم يلاحظون «مظاهر عصبية وتوتراً لدى الطرفين (المصريون والسوريون)». مضيفاً: «هذا يعكس حقيقة أنهم يخشون من هجوم إسرائيلي، إنهم يخافوننا تماماً، والروس أيضاً لديهم الانطباع نفسه؛ ولهذا تم إخلاء الخبراء وعائلاتهم على عجل بواسطة 11 رحلة جوية مفاجئة». ووفق الوثائق الإسرائيلية، فقد كان زعيرا، مُصرّاً على أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ونظيره السوري الراحل حافظ الأسد، لا ينويان محاربة إسرائيل، وأن كل التحركات العسكرية التي يقوم بها جيشاهما بمثابة استعراض عضلات أمام إسرائيل، التي تستعد للحرب، والرسالة التي يوجهانها لإسرائيل أنهما «جاهزان للقتال في حال تعرُّض بلديهما لهجوم». وتبنى رئيس أركان الجيش، العزار، الموقف السابق، وكذلك وزير الدفاع، موشيه ديان، وحتى عندما أصرّ الموساد على التحذير من الحرب في الساعة السادسة من يوم السادس من أكتوبر، كان ديان معترضاً على تجنيد قوات الاحتياط؛ لأن هذا الأمر سيُثير ضجة ضد إسرائيل وسيكلف الاقتصاد ثمناً باهظاً.

قبل الحرب بـ6 ساعات

وعقب ساعات أخرى من تقليل زعيرا من التحركات المصرية - السورية، تكشف الوثائق، عن أن القادة الإسرائيليين السياسيين والعسكريين، راحوا يتحدثون في اجتماع آخر صبيحة يوم السادس من أكتوبر، وتحديداً في الساعة الثامنة، أي قبل ست ساعات من اندلاع الحرب، عن إمكانية توجيه ضربة استباقية لمصر وسوريا. والسبب هو توافر معلومات تقول إنهما ستشنان هجوماً على إسرائيل في الخامسة أو السادسة مساءً، وظهر اتجاه في الاجتماع الذي قادته رئيسة الوزراء غولدا مائير أن تشن إسرائيل حرباً على سوريا ومصر في الرابعة بعد الظهر.

قلبي يؤيد حرباً كهذه... لكن عقلي يراها ضرراً أمام المجتمع الدولي

غولدا مائير

لكن رئيسة الحكومة، مائير، قالت: «قلبي يؤيد حرباً كهذه، لكن عقلي يرى في الأمر ضرراً لإسرائيل أمام المجتمع الدولي». وأضافت: «إذا تبين أن المصريين والسوريين لا ينوون الحرب فعلاً فستكون هذه مغامرة من إسرائيل تؤدي إلى قتلى وجرحى، هباءً». ووافقها وزير الدفاع موشي ديان على ذلك. وخلال النقاش طُرح سؤال: «ماذا لو هاجمتنا مصر وحدها من دون سوريا؟». فأجاب ديان أنه «في هذه الحالة يجب استغلال الحدث وشن حرب على سوريا أيضاً حتى لو لم تشارك في الهجوم» وأضاف: «أيضاً في حال شنّت سوريا وحدها حرباً على إسرائيل، يجب شن حرب على مصر»، ووافقه قادة أجهزة الأمن. ووفق وثائق الأرشيف الإسرائيلي بشأن الاجتماع، فإنه ضم بخلاف مائير وديان، كلاً من: «رئيس الأركان دافيد العزار، ورئيس الاستخبارات العسكرية إيلي زعيرا، وانضم إليه لاحقاً نائب رئيس الوزراء، يغئال الون، والوزير بلا وزارة، يسرائيل غليلي». وقال ديان: «إنني أفكر في موضوع توجيه ضربة استباقية. فإذا أقدمنا عليها يحقق لنا ذلك مكاسب هائلة، ويوفر لنا الكثير من الأرواح... نحن نستطيع إعلان الحرب في الساعة الثانية عشرة ظهراً، فنبيد سلاح الجو السوري كاملاً وخلال 30 ساعة نقضي على شبكة الدفاع الصاروخية فيها. فإذا كانوا يخططون لحرب في الساعة الخامسة يكون جيشنا قد قطع شوطاً طويلاً في ضربهم. وهذا يغريني جداً. لسنا ملزمين باتخاذ قرار الآن، معنا أربع ساعات لنتحدث في الموضوع مع الأمريكيين، ربما يؤكد لنا الأمريكيون المعلومات عن نية الحرب لدى العرب فنفاجئهم بضربة استباقية، هذا ممكن وسلاح الجو عندنا جاهز». وبعد فقرة إفادة ديان، يتضمن محضر الاجتماع فقرة مشطوبة من الرقابة الإسرائيلية على الوثائق، وتقرر إبقاؤها سرية 40 سنة أخرى، ويبدو أنها تتعلق بالمصاعب التي تواجهها إسرائيل في المجتمع الدولي. وظل ديان يطرح سيناريوهات عن مهاجمة سوريا حتى لو لم تبادر بالحرب، ولضرب مصر حتى لو لم تشارك سوريا في المعارك، لكن مائير حسمت القرار ضد الضربة الاستباقية بالقول: «الزمن تغير منذ حرب 1967، وما كان صالحاً حينها ليس صالحاً اليوم».

قبل الحرب بعامين

رواية رسمية أخرى مصدرها هذه المرة الكتاب غير المسبوق الذي أصدره «الموساد»، تُظهر بصورة ما أن الإسرائيليين وقعوا في فخ تمكّن الرئيس المصري السادات، من إعداده بعدما غرس فرضية لديهم أنه لن يحاربهم؛ وبحسب الكتاب، فإن رئيس الموساد تسفي زامير، أبلغ رئيسة الوزراء، غولدا مائير، قبل سنتين من الحرب، أي في خريف عام 1971، بنوايا السادات محاربة إسرائيل، بل وأطلعها على جوانب أساسية من استراتيجية الرئيس المصري. اعتمد زامير على من عدّه «كبير جواسيس الموساد، أشرف مروان» الذي عُرف بلقب «الملاك». ويشير الكتاب إلى أن مائير تأثرت من عمق المعلومات لدرجة أن قالت له في تلخيص اللقاء: «في يوم ما، عندما يمكن كشف أنك نقلت لي هذه المعلومات ستحصل أنت وفريقك على وسام». كتاب الموساد، يشير أيضاً إلى أن زامير «تمكّن من الحصول على محاضر لقاءات السادات مع المسؤولين السوفيات في موسكو عام 1971، والتي أخبرهم فيها بأنه مصمم على استعادة سيناء كلها، وليس مجرد جزء منها، إما عن طريق المفاوضات الدبلوماسية أو عن طريق الحرب مع إسرائيل». ويستنتج كتاب «الموساد»، أن الاجتماع السابق كان المرة الأولى التي يتم فيها الكشف عن أن «السادات كان منفتحاً على فكرة حرب محدودة؛ بهدف المساعدة في دفع المفاوضات إلى الأمام».

إذا حاربتنا سوريا وحدها سنضرب مصر حتى لو لم تهاجمنا... والعكس

تضليل إعلامي

ملمح مهم آخر في ذكرى نصف قرن على حرب أكتوبر ووثائقها تعكسه التغطيات الصحافية الإسرائيلية للحرب، خصوصاً في مجتمع أظهر اهتماماً مبكراً بالصحافة حتى قبل قيام الدولة ذاتها، ويسجل تاريخها أنه في عام 1942 وعندما قطعت الحركة الصهيونية خطوات بعيدة المدى في الإعداد لقيام إسرائيل دعت رؤساء تحرير الصحف العبرية إلى اجتماع لتنسيق المواقف في مواجهة الرقابة العسكرية التي أقامتها سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين. وأطلقت على ذاك الإطار اسم «لجنة الرد»، وصار قادة الحركة الصهيونية يدعون رؤساء التحرير للاجتماع بشكل دوري لإطلاعهم على عدد من الأسرار مقابل تعهدهم بعدم نشر أمور تخالف المصلحة العامة. وحتى بعد قيام إسرائيل تحول اسم «لجنة الرد» إلى «لجنة المحررين»، وصارت اجتماعاتها دورية مع رئيس الوزراء وعدد من الوزراء وكبار العسكريين، لكن الشراكة في الأسرار تحولت توجيهاً، ثم تجنيداً لرؤساء التحرير لخدمة سياسة الحكومة. وتظهر وثائق الأرشف الإسرائيلي، أن رئيس أركان الجيش الذي طمأن رؤساء التحرير يوم الثالث من أكتوبر قاطعاً بعدم قيام حرب، اجتمع بهم لاحقاً عشر مرات، خلال الأسابيع الثلاثة التي جرت فيها المعارك حتى وقف إطلاق النار، وخلال الاجتماعات، تبلورت السياسة الإعلامية التي تبين أنها «ضللت الناس». وبينما بات معروفاً لدى الكثيريين أن إسرائيل هزمت العرب في سنة 1967 ونشرت الحقائق عن الحرب مقابل تضليل وسائل إعلام عربية، لكن إسرائيل عادت في عام 1973 لتمارس التضليل أيضاً، وفق ما تظهر شهادات المعاصرين ووثائق المرحلة. لقد قلب الإعلام الإسرائيلي الحقائق عن المعارك في حرب 1973، وأخفى حجم الاصابات الإسرائيلية وتم تفعيل رقابة عسكرية صارمة، بحيث وضعت الرقابة جندياً يمثلها في هيئة تحرير كل صحيفة، ومنعت وصول الصحفيين إلى الجبهة. وكان من بين أشهر تلك الوقائع، أن الرقابة العسكرية منعت نشر خبر عن سقوط صاروخ مصري على مدينة تل أبيب في اليوم الأول للحرب، ولم يعرف شيء عنه طيلة سنة من الحرب، وعندما سُئل الناطق بلسان الجيش آنذاك، العميد بنحاس لاهف عن ذلك قال: «كان تقديرنا أن المصريين، لن يعودوا على خطأ كهذا وأن نشر الأمر يخلق هلعاً وهذا غير حيوي»، بحسب ما كشف عنه الكتاب السنوي لنقابة الصحافيين في إسرائيل لعام 1974. ولاحقاً، في عام 2011 تعرّض العميد لاهف، لسؤال عن واقعة الصاروخ المصري، خلال مقابلة صحافية مع «غلوبس» العبرية، وقال: «الصحافة معها حق. لقد أخطأنا، كان الجمهور يستقي معلوماته من الإعلام العربي والأجنبي، وهذا غير سليم لأنه هز الثقة بالجيش»، بل واعترف بأن ما نشره للجمهور خلال الحرب، خصوصاً في أول يومين «كان مشوهاً ومضللاً وناقصاً»، غير أنه أضاف أن يكون ذلك بسبب «سياسة مخططة» بل «ناجماً عن المفاجأة من الحرب ووجود كوادر غير مهنية لديه». واقعة تضليل أخرى نشرتها الصحافة الإسرائيلية خلال الحرب، وتتعلق بخبر نشره الجيش الإسرائيلي قال فيه: إنه «ما زال يسيطر على كل القطاع الشمالي من خط بارليف»، بينما كان الجيش المصري حرر بالفعل ذاك المقطع وتقدّم كيلومترات عدة إلى الأمام. فضلاً عن إخفاء الإسرائيليين الأنباء عن مقتل عدد من كبار ضباطه في المعارك، ومرة أخرى يبرر العميد لاهف ذلك بالقول: «شعب إسرائيل لم يكن جاهزاً في ذلك الوقت لسماع الحقائق كاملة عن كل شيء... كان الشعب غاضباً على قادته العسكريين والسياسيين، ونشر الحقائق يُلحق ضرراً كبيراً بالمعنويات».

تكرار الإخفاق

ومن بين أهم ما نُشر إسرائيلياً في مناسبة مرور نصف قرن على حرب أكتوبر، ما يتعلق بتصريحات رئيس جهاز الموساد، ديفيد بارنياع، مطلع الشهر الماضي، خلال مهرجان لإحياء ذكرى الحرب الخمسين؛ إذ أطلق تحذيراً صريحاً ومباشراً للقيادة السياسية، من «تكرار الإخفاقات والتصرف بالغرور التقليدي للاستخفاف بقوة العدو من جهة، والاستخفاف باحتمالات التقدم نحو عملية سلام». وقال بارنياع: إن «إسرائيل تواجه خطراً وجودياً ولا يجوز لنا التوقف عن معالجته. ونحن نفعل ذلك، ونعرف ما هو دورنا وما هو هدفنا. تركيزنا الاستراتيجي ينصبّ عليه ويجعلنا نستثمر فيه، ولكن يجب ألا نستخف بالعدو وبقدراته. ويجب ألا ننسى أن هناك دولاً وتنظيمات من حولنا تعزز من قواها لتهديد سلامتنا، ويجب ألا نبالغ في قوة دعم الحلفاء لنا، وأن نعتمد على قوتنا وقدراتنا. ولكن، في الوقت نفسه يجب ألا نستخف باحتمالات السلام والتطبيع».

المسار الأردني... من ضغط «كامب ديفيد» إلى «وادي عربة»

عمان: «الشرق الأوسط».. ما إن بدأت «حرب أكتوبر» من العام 1973 حتى وجد العاهل الأردني الراحل الملك الحسين نفسه تحت ضغط المشاركة الرمزية في الحرب من خلال اللواء (40) من القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي) الذي بعث به عبر جبهة الجولان التي شهدت قتالا عنيفا بين الجيشين السوري والإسرائيلي. وتحت مطالبات داخلية أهمها انقسام الجيش بين مؤيد ومعارض للمشاركة في الحرب، أرسل الحسين أحد أقوى ألوية جيشه، الذي شارك في حروب العام 1948 و1967 و1968 وكان له دور الحسم في مواجهات من العام 1970، وقد كُلف اللواء بالقتال في الجولان والدِّفاع عن مدينة دمشق بالتعاون مع «قوات صلاح الدِّين» العراقية، إذ «تمكن من صدِّ الهجوم الإسرائيلي على محور درعا دمشق وقدم 21 شهيداً بين ضباط وأفراد و110 جرحى»، بحسب رواية وثقتها «وكالة الأنباء الأردنية» (بترا) على لسان المقدَّم ملوح نزَّال العيسى. بموازاة ذلك فقد كان هناك تحد داخلي يتصاعد بوجه العاهل الأردني بعد انقسام آراء كبار قادة الجيش من المشاركة في الحرب التي انطلقت، ففي جلسة مجلس الوزراء برئاسة زيد الرفاعي (الحكومة الأولى من العام 1973 - 1974)، تفجر نقاش حاد على خلفية عدم مشاركة الأردن في الحرب، ما دفع وزراء للتهديد بتقديم استقالاتهم.

أمام الحكومة

ولدى سماع عاهل الأردن بالأمر، جاء في اليوم التالي لمجلس الوزراء، وقدم شرحاً فيه تقدير موقف للأردن الرسمي، وقال إنه إذا كان متأكدا من قدرة الجيش العربي خلال أيام الحرب على استعادة الضفة الغربية، لكنه تساءل عن الحال بعد توقف الحرب على الجبهتين السورية والمصرية... وأصاف: «هل باستطاعتنا بعدها حماية الضفة الشرقية من الاحتلال؟» فانتهت القضية باستقالة الوزراء اسحق الفرحان، ومحمد نوري شفيق، وزهير المفتي، وكامل أبو جابر من الحكومة، وفق ما يوثقه كتاب (القرار) لمدير المخابرات ورئيس الوزراء الأسبق الراحل مضر بدران. ولا تخفي مذكرات رجالات الحسين ما واجهه من ضغوط أميركية للحاق الأردن بـ«كامب ديفيد»، وهي الضغوط التي ضمنت على الأقل استمرار حلقات اللقاءات السرية بين الحسين والإسرائيليين، والتي توجت بمشاركة الأردن بـ«المؤتمر الدولي للسلام في مدريد» وبعدها في واشنطن، وانتهت بتوقيع معاهدة السلام بين البلدين في العام 1994 أو ما بات يُعرف بـ«اتفاق وادي عربة»، وكان ذلك بعد توصل «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى إبرام «اتفاق أوسلو» في سبتمبر (أيلول) من العام 1993، الذي اعترف بالسلطة الوطنية الفلسطينية ومنحها حكما ذاتيا على الفلسطينيين. سياسياً، أعلنت اتفاقية السلام الأردنية - الإسرائيلية إنهاء حالة الحرب، وارتخت أطول حدود برية للمملكة الأردنية من حالة الطوارئ المعلنة في صفوف القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي)، والتي عاشتها البلاد بعد احتلال الضفة الغربية في 4 يونيو (حزيران) العام 1967.

حصاد الاتفاق

لم ينل ينل الأردن في اتفاق «وادي عربة» سوى حقوق الحدود والمياه، واحترام الدور الهاشمي في الوصاية على المقدسات، غير أن الاتفاق ظل فاترا والتطبيع ليس فاعلا بعد مضي 29 عاما على توقيعه، وذلك كنتيجة حتمية في ظل تصاعد دور اليمين المتطرف الإسرائيلي والممارسات التي تستهدف تغيير الواقع على الأرض وزيادة رقع الاستيطان. وشعبياً، صعّدت تلك الاتفاقية من حالة الاحتقان، وتبلورت مؤسسات أهلية متعددة تحت شعار مقاومة التطبيع، وقادت تلك الجهود نخب سياسية محسوبة على النظام الأردني، واصطدمت تلك الجهود بقمع خشن في أكثر من مرة نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي. كما مست تلك الاتفاقية حدود حرية الرأي والتعبير في البلاد، ونفذت حملات اعتقالات واسعة ضد معارضيها. وظل الموقف الشعبي ضاغطاً ومطالبا بإلغاء اتفاق السلام، وذلك عبر عشرات المذكرات النيابية التي تباينت في مطالبها بين إلغاء المعاهدة أو طرد السفير الإسرائيلي، لكن رجال الحسين، الذين غابوا منذ «المعاهدة»، كانوا مدركين أن إسرائيل لن تمنح أي حق فلسطيني، فهي تريد سلاما من دون تنازلات، وسلاما على قياس مصالح الطرف الأقوى في الصراع.

مصر وإسرائيل... سلام «بارد» أم تفاهم ممتد؟

علاقات «ما بعد أكتوبر» لم تستطع اختراق جدار الرفض الشعبي

الشرق الاوسط..القاهرة: أسامة السعيد.. عندما كان الجنود المصريون يعبرون قناة السويس، ونظراؤهم السوريون يقتحمون مرتفعات الجولان، بعد ظهيرة يوم السادس من أكتوبر عام 1973، ربما لم يُدر في خلدهم تلك الحسابات المعقدة والتحولات غير المسبوقة التي ستلي المعارك العسكرية. لكن هذا ما حدث على أي حال -بدرجات متفاوتة- في ساحات السياسة والدبلوماسية، لتدخل المنطقة في حقبة "ما بعد أكتوبر" منعطفاً جديداً تقاطعت فيه مصائر العرب مع استراتيجيات الدول الكبرى.واليوم وبعد نصف قرن على "يوم المفاجأة" العربي لإسرائيل، تبدو صورة الحدث منقسمة بين فخر وطني لا يزال راسخاً في الأذهان، ومعاهدات لافتة تضمن لها القوى الكبرى السريان. وبين هذا وذاك، انتهاكات واعتداءات تخبو حيناً وتتفجر أحياناً. خمسون عاماً مرَّت على «آخر المعارك» بين مصر وإسرائيل، تخللتها نحو 45 عاماً من السلام بين البلدين، سلام يصفه البعض بأنه «بارد»؛ إذ يقتصر على العلاقات الرسمية، دون أن يمتد إلى تطبيع شعبي، فلا يزال «الحاجز النفسي» تجاه إسرائيل قائماً، لم تستطع سنوات السلام أن تخترقه، فيما يرى آخرون أن «صمود» حالة السلام بين القاهرة وتل أبيب في ظل تحولات داخلية وعواصف إقليمية «يمثل نجاحاً بحد ذاته». ووقّع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغن معاهدة سلام في 26 مارس (آذار) 1979 برعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر، غير أن العلاقات الثنائية لا تزال محصورة على الجوانب الرسمية، سواء في جوانبها الدبلوماسية أو الأمنية، بينما اتخذت العلاقات الاقتصادية اتجاهاً تصاعدياً قبل عقدين، عندما سعت الولايات المتحدة إلى تشجيع البلدين على مزيد من التعاون، يتجاوز الجمود السياسي والرفض الشعبي المصري للتطبيع، وذلك من خلال اتفاقية إنشاء المناطق الصناعية المؤهلة في مصر (كويز) عام 2004، التي سمحت بالوصول المُعفى من الرسوم الجمركية إلى السوق الأميركية للسلع المنتجة مع ما لا يقل عن 10.5 في المائة من المدخلات الإسرائيلية.

أزمات وتفاهمات

ورغم اتجاه عدد من رجال الأعمال لتجاوز «حاجز الصمت» في العلاقات بين البلدين فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين بقي محدوداً، وبلغ خلال العام الماضي 270 مليون دولار سنوياً، إذ تُصدّر إسرائيل لمصر بضائع بقيمة 150 مليون دولار، في حين تستورد منها ما قيمته 115 مليون دولار، وفقاً للإحصاءات الإسرائيلية الرسمية لوزارتَي «الصناعة والتجارة» و«الاقتصاد»، فيما لا تتوافر بيانات مصرية محدَّثة في هذا الشأن. وإلى جانب التعاون الاقتصادي «المحدود» استطاعت العلاقات بين البلدين تخطي مجموعة من الأزمات ارتبط بعضها بحوادث ذات طابع أمني، كبعض الاعتداءات الحدودية، كان آخرها حادث معبر العوجة في يونيو (حزيران) الماضي، الذي أدى إلى مقتل 3 جنود إسرائيليين وفرد أمن مصري، قال بيان للجيش المصري إنه كان «يلاحق مهربين على الحدود مع إسرائيل». ولم يكن ذلك الحادث هو الأول من نوعه، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 1985 وقعت عملية «رأس برقة»، التي نفّذها الجندي المصري سليمان خاطر، حيث قتل سبعة إسرائيليين في منطقة حدودية بين البلدين. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2004 احتجت مصر على مقتل ثلاثة من قوات الأمن المركزي المصري بعدما أطلقت دبابة إسرائيلية قذيفة عبر الحدود بين مصر وقطاع غزة، وفي أغسطس (آب) 2011 أدت غارة جوية إسرائيلية على الحدود المصرية جنوب رفح إلى مقتل 5 مجندين من حرس الحدود المصرية، وقدمت إسرائيل لاحقاً اعتذاراً رسمياً. كما صمدت العلاقات بين البلدين في وجه النزاعات الإقليمية من بينها الحروب في لبنان (1982 و2006)، والانتفاضتان الفلسطينيتان (1987 و2000) وفي مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، التي استطاعت القاهرة توظيف اتصالاتها مع تل أبيب لوقفها عدة مرات، فيما عُدّ نجاحاً مصرياً على المستويين الإقليمي والدولي. ورغم تحولات نظام الحكم في مصر وتبدل الحكومات في إسرائيل، فإن العلاقات بين البلدين حققت قدراً من الاستقرار، لكنّ ذلك لم يفلح في تغيير الموقف الشعبي الرافض للتطبيع مع إسرائيل، والذي بلغ ذروته عقب أحداث 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011 عندما اقتحم متظاهرون غاضبون شقة ملحقة بالسفارة الإسرائيلية، وأنزلوا عَلَم إسرائيل من أعلى المبنى الذي توجد به، كما أنهت مصر الاتفاق طويل الأجل الذي كانت تزوّد بموجبه إسرائيل بالغاز الطبيعي بعد أن تعرض خط الأنابيب العابر للحدود لأعمال تخريب متكررة.

واقعية رسمية

ويُرجع الدكتور أحمد يوسف، أحمد أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لـ«معهد البحوث العربية»، صمود علاقة السلام بين مصر وإسرائيل إلى احترام مصر التزاماتها الدولية، إضافةً إلى ما يصفها بـ«اعتبارات الواقعية السياسية»، في ظل الظروف الإقليمية والدولية. ويشير أحمد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى أن العلاقة بين الطرفين تبدو بالفعل «سلاماً بارداً»، إذ بقيت مقصورة على الأطر الرسمية وفي حدها الأدنى الذي تستوجبه الترتيبات الأمنية والدبلوماسية، لكنها «لم تنتقل أبداً إلى مرحلة السلام الدافئ، على الأقل شعبياً». وفي حين يتفق الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والجامعة الأميركية، مع فكرة استمرار الرفض الشعبي لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، إلا أنه يرى أن ثمة تطورات في العلاقات الرسمية بين الجانبين، خصوصاً مع تعدد لقاءات المسؤولين في البلدين، ومشاركة مصر في «منتدى النقب» الذي يضم دول عدة بينها إسرائيل والولايات المتحدة ويتولى تنسيق السياسات بين الدول المشاركة. ويذهب السيد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى أن السلام الرسمي مع إسرائيل «لم يعد بارداً»، وأن موافقة إسرائيل على تجاوز مصر بعض قيود وجود قواتها في سيناء، وفقاً لنصوص اتفاق السلام مثّل تجسيداً لحالة «الاعتماد المتبادل» بين البلدين، وبخاصة في المجالين الاقتصادي والأمني، لكن الرفض الشعبي «يكاد يكون مطلقاً»، مستشهداً برفض الأحزاب والنقابات المصرية إقامة أي علاقات مع نظيراتها في إسرائيل، ويشير كذلك إلى تراجع لقاءات مثقفين من البلدين كما كان يحدث في سنوات سابقة. ويعتقد الدكتور عماد جاد، مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» والعضو السابق في مجلس النواب المصري، أن العلاقات المصرية - الإسرائيلية تشهد حالياً موجتها الثالثة التي يصفها بـ«السلام الساخن»، بعدما تجاوزت موجة السلام الرسمي «البارد»، و«الحرب الباردة» التي تزامنت مع أحداث إقليمية عاصفة كالغزو الإسرائيلي للبنان والانتفاضتين الفلسطينيتين، وما أتبع تلك الأحداث من استدعاء للسفير المصري في تل أبيب. ويضيف جاد في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» أن زيادة عدد القوات المصرية في المنطقة (ج) من سيناء، من نحو 750 جندياً من قوات حرس الحدود إلى 35 ألف جندي مصري بكامل العتاد لمحاربة الإرهاب بعد 2013، يعني وجود تنسيقات مصرية - إسرائيلية، فضلاً عن المصالح الاقتصادية المتبادَلة بعد اكتشافات الغاز، والتي خلقت إطاراً إضافياً للتنسيق والتعاون في إطار «منتدى غاز شرق المتوسط» الذي تشارك فيه إسرائيل، وتستضيف القاهرة مقره.

حظر التطبيع

ورغم أن أكثر من 65 في المائة من المصريين وُلدوا بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، فإن ثمة مؤشرات عدة على الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل، إذ تحظر الأحزاب والنقابات المهنية والفنية والتجمعات الثقافية في مصر على أعضائها كل أشكال «التطبيع»، وتصر نقابة الصحافيين المصريين على تجديد ذلك الحظر دورياً. وتعرّض الممثل المصري محمد رمضان لحملة انتقادات عنيفة قبل 3 أعوام بعد نشر صورة تجمعه بالمغني الإسرائيلي عومير آدم، في دبي، واضطر رمضان إلى الاعتذار. فيما واجه البرلماني المصري السابق والإعلامي توفيق عكاشة، عقوبة الفصل من البرلمان عقب دعوته السفير الإسرائيلي في مصر إلى منزله عام 2016، وهو ما تسبب في تعرضه لهجوم غير مسبوق، وهمّ أحد النواب بضربه خلال جلسة مناقشة قرار فصله من البرلمان. كما مثّلت المنافسات بين رياضيين مصريين وإسرائيليين في محافل دولية مؤشراً كذلك على الموقف الشعبي المصري، إذ غالباً ما تنتهي تلك المنافسات بانسحاب اللاعبين المصريين، أو برفضهم مصافحة منافسيهم، وفي بعض الأحيان شهدت تلك المقابلات أحداث عنف على غرار ما وقع في مواجهة منتخبَي كرة اليد بالبلدين في هولندا عام 1995 حيث أُصيب فيها خمسة لاعبين إسرائيليين. ورغم تلك الوقائع، فإن الدكتور عماد جاد يرى أن ثمة «خفوتاً في حدة الرفض الشعبي تجاه إسرائيل»، مرجعاً الأمر إلى اتخاذ بعض الفصائل الفلسطينية ومنها «حماس» مواقف يصفها بـ«المعادية للمصالح المصرية»، مثل اتهامها باقتحام السجون إبان أحداث 25 يناير 2011، أو إقامة علاقات مع دول مثل قطر وإيران وتركيا في فترة التوتر مع مصر عقب 2013. كما يشير البرلماني المصري السابق إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية لدى جموع المصريين بسبب انشغالهم بالهموم المعيشية، فلم تعد تخرج مظاهرات عند وقوع عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين، كما كسر الكثير من الصحافيين حظر التطبيع وزاروا إسرائيل، من بينهم نقيب الصحافيين الراحل مكرم محمد أحمد. في المقابل، يرى الدكتور أحمد يوسف أحمد، الرفض الشعبي المصري للتطبيع مع إسرائيل «لا يزال قوياً»، ويصفه بـ«الموقف بالغ التميز»، إذ يعكس التزاماً بموقف النظام العربي ألّا يتم التطبيع إلّا بعد حل القضية الفلسطينية، لافتاً إلى أن السلطات المصرية «لم تحاول في أي مرحلة منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل أن تضغط على النقابات والأحزاب لتغيير مواقفها، أو تحاول غسيل دماغ مواطنيها لقبول التطبيع مع إسرائيل».

مصريون وسوريون يتذكرون معركتهم بفخر رغم «التشويش»

ميراث تحفظه حكايات المعاصرين وتوثّقه صور المقاتلين

القاهرة: إسماعيل الأشول دمشق: «الشرق الأوسط».. عند كل ذكرى لحرب أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973، موعد لا يخطئه المصريون مع جدل متجدد حول «آخر الحروب» الكبرى التي خاضها الجيش المصري. ورغم مضي خمسة عقود على الحرب، فإن أحاديث «الفخر» لا تزال ميراثاً متداولاً من جيل إلى جيل، تحفظه حكايات الجدات، وترسم معالمه ملامح الآباء الذين قضوا في الحرب، أو بعدها، تاركين خلفهم صورة في زي عسكري، تُزيّن جدران البيوت. ويعزو مؤرخون ومواطنون ارتباط المصريين بالحرب إلى «وشائج ذات أبعاد عدة، تختلط فيها وقائع القتال، بتفاعلات اجتماعية، وقومية، وذاكرة جمعية تتفق على أهمية ذلك الفصل من التاريخ الوطني»، بحسب الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان. يقول الدسوقي، لـ«الشرق الأوسط»: إن الجيل الشاب من المصريين يتفاعل مع ذكرى حرب أكتوبر من خلال ما يتم نشره من أحاديث مع رجالات الجيش في الحرب، والمذكرات واليوميات التي سبق نشرها، ويعاد طباعتها. وأشار المؤرخ المصري إلى أن الوسائط التكنولوجية الحديثة «ساعدت على زيادة التفاعل، من خلال سرعة تداول الإفادات، والسير البطولية، فضلاً عن توفير الكتب الرقمية». وبينما يقرّ بتراجع الاهتمام أحياناً، يقول: إن ذلك «لم يؤثر على نظرة المصريين الشباب للصراع مع إسرائيل، وخاصة في ظل واقع القضية الفلسطينية». وعبر موقع «فيسبوك»، نشرت صفحة باسم «اكتشف معنا السويس»، صورة لمنزل قديم، في سبتمبر (أيلول)، قبل أيام من حلول ذكرى الحرب، تقول: «عند دخولك لهذه المدينة ستجد لافتة كُتب عليها: ارفع رأسك عالياً، أنت في مدينة الأبطال. بيوت السويس القديمة، وما زالت آثار طلقات النار على جدرانها موجودة حتى الآن». ويحتفظ مواطنو مدن إقليم قناة السويس في مصر (الإسماعيلية والسويس وبورسعيد)، بمشاعر فخر إزاء الحرب، تغذيها أغنيات شعبية عن الصمود، عُرفت بها خلال سنوات الصراع في مطلع سبعينات القرن الماضي. ويرى الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، أن هناك «معركة تديرها إسرائيل في الإعلام لإثبات أنها انتصرت في حرب 1973»، ويقول لــ«الشرق الأوسط»: «أجد شباباً مثقفين يعرفون حقيقة ما جرى، يردّون على الذين يشوّهون تاريخ حرب أكتوبر ويُفحمونهم بقراءاته. وهذا النوع من الشباب هو الذي نريده ليحافظ على وعيه التاريخي وهويته». وخلال الأعوام القليلة الماضية، دأب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على الترويج عبر المنصات الاجتماعية، مع حلول ذكرى الحرب، لإفادة تقول: إن هذه المواجهة «التي بدأت بمفاجأة كبيرة، انتهت بنصر عسكري إسرائيلي وفتحت أبواب السلام مع أعظم دولة عربية»، وهو ما قوبل بتعليقات مضادة من المصريين الذين دافعوا عن «السردية المصرية لمجريات الحرب ومآلاتها». وهنا، يقول الأكاديمي المصري جمال شقرة: إن على المؤرخين والمؤسسات المعنية بالتنشئة الاجتماعية «مواجهة الأكاذيب والشائعات عبر العمل على تنمية الوعي التاريخي، وضخ مادة علمية موثّقة حول حرب أكتوبر في الفضاء الافتراضي، بأشكال مختلفة». في عام 2019، حقق فيلم «الممر»، وهو إنتاج مصري عن كتيبة مصرية في فترة «حرب الاستنزاف» التي مهّدت لحرب أكتوبر، إيرادات عدّها نقاد قياسية، بلغت 73 مليوناً، و616 ألف جنيه (الدولار يساوي 30.9 جنيه) بعد عشرة أسابيع في دور العرض، وفق تقارير صحافية مصرية. ويقول المصري حسام الجارحي (45 عاماً): إن حرب السادس من أكتوبر «عصيّة على النسيان أو التزييف مهما تباعدت السنون». ويوضح الشاب الذي يعمل مديراً بأحد مصانع مدينة السادات (أنشئت بقرار جمهوري في عام 1978)، أن تفاعل الشباب الآن «يمكن رصده من خلال المشاركة الواسعة عبر المنصات الاجتماعية عندما تحل ذكرى الحرب». ويضيف، في نبرة حماسية لـ«الشرق الأوسط»: «أولادي لم يشهدوا الحرب، ومع ذلك يفاخرون بحكايات الأجداد والأقارب الذين قضوا سنوات طويلة في ثياب الجندية المصرية. كفاح المصريين في السادس من أكتوبر لم يكن مرتبطاً فقط بالجهد العسكري؛ فقد كانت الأمهات في البيوت، والآباء في الحقول، يوصون أبناءهم بالثأر العسكري من هزيمة 1967 القاسية». ويشير الجارحي إلى أغنية ألّفها شاعر العامية المصري الراحل، أحمد فؤاد نجم، عقب نكسة 1967، عن قصة لمجند مصري يدعى عبد الودود يتلقى رسالة من أسرته عندما كان مرابضاً على الجبهة ومما جاء فيها: «واه يا عبد الودود... يا رابض عالحدود... ومحافظ عالنظام... كيفك يا واد صحيح... عسى الله تكون مليح... وراقب للأمام... عقولَّك وانت خابر... كل القضية عاد... حِسّك عينك تزحزح... يدّك عن الزناد... خليك يا عبدو راصد... لساعة الحساب... آن الأوان يا ولدي... ما عاد إلا المعاد». ويضيف الجارحي: «هذه الأغنية عبّرت منذ كتابتها وتداولها، وحتى اليوم، عن الموقف الشعبي المصري في الحرب». ويبدي اعتقاده أن مصادر الشبان المصريين عن الحرب أكثر من أن تُحصى، وخاصة مذكرات الذين شاركوا في الحرب، وفي مقدمتهم الفريق سعد الشاذلي، (رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية بين 1971 وحتى أواخر 1973)، وصاحب أشهر مذكرات عسكرية عن الحرب، والمعنونة: «حرب أكتوبر... مذكرات الشاذلي».

ماذا عن سوريا؟

خمسون عاماً مرّت لم تخفف من وهج الرواية الرسمية السورية بشأن بطولات «أسطورية» لوقائع «حرب أكتوبر (تشرين الأول) التحريرية 1973» بل تزداد عاماً بعد آخر، إلى حد أن اعتبار «معركة تشرين (أكتوبر)» لا تزال متواصلة حتى اليوم، وفق ما تذهب تقارير وكالة الأنباء الرسيمة في المناسبة؛ إذ تفيد بأن «التشابه في العدوان وأدواته وأهدافه يجعل ذكرى حرب تشرين (أكتوبر) التحريرية أكثر من مجرد حدث يُحتفل به كل عام، فقد تحولت إلى واقع معيش في ميادين التصدي للإرهاب في سوريا، وغيرها من دول المنطقة». وبمزجٍ بين الماضي والحاضر، تطرقت أسرة المهندس السوري الشاب عامر (28 عاماً) إلى ذكرى «حرب تشرين (أكتوبر)»، غير أن الابن عامر أجاب عن سؤالنا: «ماذا تبقَّى في ذاكرة السوريين من حرب تشرين (أكتوبر)؟»... أجاب بسؤال آخر: «بل يجب أن نسأل: ماذا بقي من سوريا والسوريين؟». عامر الذي طلب ذكر اسمه الأول فقط، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرواية الرسمية بشأن الانتصار في الحرب أفضت إلى تبريد جبهة الجولان بموجب اتفاقية دولية وبالتالي السقوط بالتقادم». وربما يمكن تفسير تشاؤم عامر، عند وضعه في مواجهة الحنين المتدفق من حديث والده (70 عاماً) عن «ذكريات حرب تشرين (أكتوبر)، والزخم والحماس الذي خيَّم على السوريين عموماً حينذاك، خصوصاً في الأيام الأولى التي شهدت تسطير أروع البطولات». يتحدث الأب عمّا رآه عندما «كان الناس في دمشق والمناطق القريبة من الجبهة يصعدون إلى الأسطح لمشاهدة إسقاط الطائرات الإسرائيلية». مستطرداً: «لقد انتظر السوريون والعرب تلك الحرب لرد الاعتبار للكرامة العربية التي أهدرتها هزيمة يونيو (حزيران) المشينة، وتداعي العرب من (المغرب والعراق والأردن والسعودية والكويت) للوقوف في خندق واحد مع السوريين والمصرين ضد إسرائيل... لقد خضنا الحرب وكلنا ثقة بأننا سنحرِّر القدس»! ويضيف الأب السوري أن «ساحة السبع بحرات وسط دمشق التي أُعيد تأهيلها مؤخراً سُميت ساحة (التجريدة المغربية) تكريماً للفرقة المغربية التي شاركت في حرب تشرين (أكتوبر) بسبب قتالهم ببسالة على جبهة الجولان واستشهاد العشرات منهم ودفنهم في سوريا».

برهان وطنية

و«التجريدة المغربية» فرقة مشاة عسكرية مغربية أرسلها المغرب إلى سوريا في يونيو 1973 للمشاركة في حرب تشرين (أكتوبر)، وشاركت بشكل أساسي في معارك الجولان خلال الأيام الأولى، وقادها الجنرال عبد السلام الصفريوي، وتم تكليف الكولونيل عبد القادر علام بتسليمها للقيادة السورية، وكان في مقدمة الشهداء المغاربة في حرب تشرين (أكتوبر). وبالعودة إلى الابن عامر الذي أكلت الحرب الدائرة في سوريا 13 عاماً من عمره، يقول الشاب: إن «أقصى طموحه الآن هو الهجرة». ومع ذلك فإن السوريين في محافظة السويداء التي تشهد احتجاجات مناهضة للحكومة منذ أكثر من شهر، لم يجدوا سوى ذكرى حرب تشرين (أكتوبر) عند إثارة الجدل حول ولاء ضابط متقاعد من أبناء المحافظة، وكان من براهين وطنيته مشاركته في رفع العَلم السوري على مرصد جبل الشيخ الذي تم تحريره في حرب تشرين (أكتوبر). «حرب تشرين (أكتوبر) ورغم اقتصار تذكرها سنوياً على الإعلام الرسمي، فإنها لا تزال تمثل نقطة مضيئة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، لدى معاصريها، وذلك رغم عدم تحقيق أهدافها بمحو آثار هزيمة يونيو 1967»، حسب تقييم صحافي سوري بارز تحدث إلى «الشرق الأوسط» شريطة عدم ذكر اسمه لعمله بالإعلام الرسمي. ويقول الصحافي السوري: «اعتدنا خلال عملنا على مدى عقود الاحتفال سنوياً بهذه الذكرى، ومع تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة بدأت المساحات الكبيرة التي كان يخصصها الإعلام الرسمي للاحتفال بالمناسبة وتمجيد قائدها الرئيس الراحل حافظ الأسد تتقلص، وتنحدر نحو (التكرار)».

السردية الرسمية

أما على المستوى الرسمي، فإن الرواية بشأن حرب تشرين (أكتوبر)، «تفيد بتوغل الجيش السوري في الأيام الأولى من الحرب إلى عمق هضبة الجولان المحتل، إلا أن ما قلب موازين المعركة هو تدخُّل الولايات المتحدة الأميركية في اليوم السادس إلى جانب إسرائيل، التي بدورها شنَّت هجوماً معاكساً تصدى له الجيش السوري بمساندة عربية باستبسال عزّ نظيره، إلا أنه أجبر على التراجع، أمام تقدم إسرائيل لتصل إلى بُعد 40 كم من العاصمة». ومع قبول سوريا في 24 أكتوبر قرار وقف إطلاق النار، بدأ ما سُميت «حرب استنزاف» التي استمرت حتى 31 مايو (أيار) عام 1974، وبعدها تم توقيع اتفاقية فك اشتباك أفضت إلى إعادة مدينة القنيطرة المدمرة إلى سوريا، مقابل إبعاد الجيش السوري عن خط الهدنة، وإحلال قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تنفيذ الاتفاقية، ولتبقى هضبة الجولان محتلة. ورغم ذلك تَعد وزارة الدفاع السورية حرب تشرين (أكتوبر)، «محطة مفصلية في مسار الصراع العربي - الإسرائيلي»، وتقول إن من أهم نتائج حرب تشرين (أكتوبر) أنها انتزعت زمام المبادرة بالحرب من إسرائيل. مقللةً من أهمية الخسائر الجغرافية قياساً إلى النتائج العامة للحرب وتقول في عرضها لتلك النتائج عبر موقعها الرسمي على الإنترنت: «قد نكون خسرنا أرضاً هنا، وربحنا أرضاً هناك، إنما، مهما تكن حصيلة هذه الحرب العربية - الإسرائيلية من حيث الربح والخسارة الجغرافيتين، فالقضية ليست كما تريد إسرائيل تصويرها للناس، في محاولة يائسة منها لطمس آثار حرب تشرين (أكتوبر) التحريرية ونتائجها الإيجابية بالنسبة إلى الأمة العربية».

حروب إسرائيل بعد 1973... كيف بدأت وإلى أين انتهت؟

حصار بيروت يصدم... و«صبرا وشاتيلا» تُروع... واستهداف غزة متواصل

الشرق الاوسط...بيروت: يوسف دياب.. استفاق اللبنانيون في 6 يونيو (حزيران) 1982 على عملية عسكرية إسرائيلية واسعة، وصلت إلى بيروت وأثارت صدمة داخل وخارج البلد الذي تحولت نصف مساحته تقريباً ساحةً مشتعلة، احتل خلالها الإسرائيليون، الجنوب وبيروت وأجزاء من جبل لبنان والبقاع. والغزو الذي سمّته إسرائيل «عملية سلام الجليل»، كان أوسع عملية عسكرية تخوضها تل أبيب بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، ذلك أن «عملية الليطاني» التي أطلقتها في 14 مارس (آذار) 1978، كانت محدودة في جنوب ضفة «نهر الليطاني» جنوب البلاد. ويُعتقد أن حجم العملية كان الأكبر بالنسبة لإسرائيل؛ إذ زجت بآلاف الجنود بقيادة آرييل شارون الذي كان وزيراً للدفاع آنذاك، وأدى الاجتياح إلى إنهاك المؤسسات الحكومية اللبنانية المضطربة أصلاً جراء الحرب الأهلية (1975: 1990)، وحوّل لبنان ساحة حرب ما بين الإسرائيليين، والقوات الفلسطينية، والأحزاب اللبنانية، والجيش السوري. كانت ذريعة الإسرائيليين أن عمليتهم رداً على محاولة اغتيال سفير تل أبيب في لندن شلومو أرجوف، في 3 يونيو 1982، والتي نفذتها جماعة «فتح - المجلس الثوري» (المنشقة عن «منظمة التحرير الفلسطينية») بقيادة أبو نضال. وتمثلت أهداف تل أبيت في: إجلاء كل القوات العربية عن لبنان ومن ضمنها الجيش السوري، وتدمير «منظمة التحرير الفلسطينية» بقيادة ياسر عرفات، وتوقيع اتفاقية سلام مع الحكومة اللبنانية، وضمان أمن المستوطنات الإسرائيلية الشمالية. استمرت الحرب الإسرائيلية على لبنان حتى عام 1985 وأسفرت عن سقوط نحو 17 ألف قتيل وإصابة أكثر من 30 ألف شخص من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، وانسحبت بعدها القوات الإسرائيلية إلى خلف الشريط الشائك في جنوب لبنان. وصحيح أن الحرب بشكلها المعروف انتهت عام 1985، إلا أن آثارها لم تنتهِ حتى 25 مايو (أيار) من عام 2000 عندما انسحب الجيش الإسرائيلي وأعوانه فعلياً من جنوب لبنان.

صبرا وشاتيلا

مثّلت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا التي بدأت في 16 سبتمبر (أيلول) 1982 واستمرت ليومين، وراح ضحيتها أكثر من 800 قتيل، غالبيتهم من النساء والأطفال الفلسطينيين والبنانيين، الصورة الأكثر مأساوية لهذه الحرب. ولا تزال مشاهد تلك المجزرة عالقة في ذاكرة المواطن اللبناني حسن حرب، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «قوات الاحتلال الإسرائيلي وبعض الميليشيات اللبنانية التي كانت تساندها، ارتكبت أبشع مجزرة بتاريخ البشرية، بعد خروج المقاتلين من بيروت (الغربية) نتيجة اتفاقية وقف إطلاق النار». ويروي حرب الذي كان منضوياً في تنظيم «المرابطون»، أن «آرييل شارون (رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل) تعهّد وقف الأعمال العسكرية فور خروج مقاتلي (فتح) و(المرابطون) وتحالف أحزاب القوى الوطنية والإسلامية، لكن وما إن تأكد من خلو بيروت من المسلحين، أشرف شخصياً (شارون) على تنفيذ المجزرة بدمٍ بارد». ورغم ذكراها المؤلمة التي عايشها بعد تسليم سلاحه، يقول حرب: إن «الإسرائيليين افتتحوا المجزرة بقتل رجل مسّن يبلغ من العمر 83 عاماً أمام محله الذي كان يبيع من خلاله الكعك عند مدخل صبرا». ويضيف: «الجرائم بحق الأبرياء ارتُكبت بالرصاص، والسكاكين والفؤوس وفسخ الشخص إلى نصفين». شاهد آخر على مجزرة «صبرا وشاتيلا» هو المسعف عبد القادر الترك، والذي كان يعمل حينها في فرق انتشال جثث القتلى من صبرا وشاتيلا، يشير إلى أن «أغلب المقاتلين الذين سلّموا أسلحتهم اقتادهم الإسرائيليون إلى داخل المدنية الرياضية في بيروت وأعدموهم ميدانياً». وأوضح الترك لـ«الشرق الأوسط»، أن «قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت بصدد استكمال مجازرها، إلّا أن انبعاث الروائح الكريهة لجثث القتلى بالشوارع وارتفاع درجات الحرارة جعلها تتوقف وتنكفئ». وقال: «لقد اضطر الإسرائيليون وشركاؤهم اللبنانيون، إلى طمر عشرات القتلى بالردم والأتربة لتخفيف الروائح»، لافتاً إلى أن «قسماً كبيراً من الجثث جرى تلغيمها وكانت تنفجر برجال الإسعاف وتقتل بعضهم».

معادلة جديدة

وتختلف تقديرات الخبراء بشأن ما حققته إسرائيل من تلك الحرب، ويلفت مدير «مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري» الدكتور رياض قهوجي، إلى أن «حرب اجتياح لبنان كان هدفها إخراج (منظمة التحرير) من لبنان، وفرض معادلة تؤدي إلى سلام مع بيروت، وبشكل عام نجحت إسرائيل في هدفها الأول، بينما كان هناك ثمة توجه لإبرام اتفاق سلام كان شبه مُنجز (اتفاق 17 أيار)، لكن الأمور ساءت بفعل التطورات الداخلية في لبنان، وبالتالي فإنها بالمعايير العسكرية والاستراتيجية كانت ناجحة بالنسبة لإسرائيل». لكن، وعلى الجانب الآخر، يعتقد عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين، هيثم زعيتر، أن «إسرائيل ورغم الدمار والمجازر التي ارتكبتها خلال اجتياح لبنان، لم تحقق غايتها بالقضاء على منظمة التحرير واغتيال ياسر عرفات وطمس القضية الفلسطينية، بل إنه بخروج (فتح) وأبو عمار من لبنان إلى تونس، جرى إعادة تقييم سياسي وعسكري لما حصل، وعادت الحركة وقائدها إلى داخل فلسطين أقوى من ذي قبل».

«عناقيد الغضب»

بعد نحو 14 سنة من اجتياح 1982، أعادت إسرائيل الكرّة في عملية عسكرية واسعة نفذتها في جنوب لبنان في 11 أبريل (نيسان) 1996 أسمتها «عناقيد الغضب» واستمرت 16 يوماً، وذلك رداً على إطلاق «حزب الله» ثلاث دفعات من الصواريخ على مستوطنتي «نهاريا» و«كريات شمونة» شمال فلسطين؛ ما أسفر عن إصابة 37 مستوطناً. وخلال القصف الإسرائيلي الذي استهدف مناطق واسعة في الجنوب، ووصل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، ارتكبت إسرائيل مجزرتين، الأولى وقعت في بلدة «المنصوري» في 13 أبريل قرب حاجز لقوات الطوارئ الدولية، أسفرت عن مقتل 9 مدنيين غالبيتهم أطفال، أما المجزرة الأخرى فوقعت في 18 أبريل في بلدة «قانا»، حيث قصفت الطائرات الحربية مقراً تابعاً لقوات حفظ السلام الدولية، لجأ إليه المدنيون وقضى فيها 102 من النساء والأطفال. وهذه المرة يعتقد الدكتور قهوجي أن «(عناقيد الغضب) فشلت بكل المقاييس وانتهت لصالح لبنان»، مستشهداً بأن رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري «استغلّ علاقاته الدولية لتحسين مركز لبنان عالمياً، ونجح بإنهاء تلك الحرب التي كانت فاشلة سياسياً بالنسبة لإسرائيل، وأضرّت مجازرها بصورة تل أبيب عالمياً».

يوليو 2006

على أثر انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في شهر مايو 2000، تراجعت العمليات العسكرية لـ«حزب الله» كثيراً، لكن تنفيذه عملية خطف جنديين إسرائيليين عند الخطّ الأزرق، تسبب في حرب جديدة عُرفت بـ«حرب يوليو (تموز)» في عام 2006، وخلّفت أكثر من 1300 قتيل لبناني، ودماراً هائلاً بالبنية التحتية. كان هدف «حزب الله» اختطاف جنود إسرائيليين للضغط على حكومتهم ومبادلتهم بأسرى لبنانيين في سجون إسرائيل، لكن الجيش الإسرائيلي شنّ هجوماً جوياً على جنوب لبنان، مستهدفاً محطات الكهرباء ومطار بيروت وشبكة من الجسور والطرق؛ مما أدى إلى مقتل العشرات. وانضمت قوات بحرية إسرائيلية للهجوم، واستدعى الجيش الإسرائيلي فرقة احتياط مؤلّفة من ستة آلاف جندي لنشرها سريعاً شمال إسرائيل، ودخلت قوات بريّة إسرائيلية إلى جنوب لبنان وخاضت معارك طاحنة مع مقاتلي «حزب الله». دامت الحرب 33 يوماً وانتهت بالقرار 1701 الذي أوقف العمليات العسكرية، بعد مقتل أكثر من 1300 لبناني، غالبيتهم من المدنيين وجرح الآلاف، بينما اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل 120 عسكرياً من جنوده وجرح 314، إضافة إلى مقتل 45 مدنياً إسرائيلياً. ويرى قهوجي أن «حزب تموز كانت فاشلة بالمعايير الإسرائيلية؛ إذ أعقبتها محاكمة لرئيس الوزراء إيهود أولمرت وقيادات عسكرية». ويخلص إلى أنه «باستثناء اجتياح عام 1982، فإن كل حروب إسرائيل بعد أكتوبر 1973 كانت فاشلة بمعايير أهدافها السياسية». أما الخبير العسكري والاستراتيجي العميد الركن خالد حمادة، فيذهب إلى أن إسرائيل «حققت في حرب عام 2006 مكسباً سياسياً مُهماً تمثّل بالقرار 1701، حيث أدخلت 12 ألف جندي أجنبي إلى الحدود مع لبنان، ومنذ ذلك الوقت لم ينفذ (حزب الله) أي عملية عابرة للحدود باتجاه إسرائيل». وقال حمادة لـ«الشرق الأوسط»: إن «أهم ما ترتب لبنانياً على حرب 2006، هو وقف أنشطة (حزب الله) العسكرية في الجنوب، ليصبح الأخير متفرغاً للداخل اللبناني للعب أدوار سياسية وأمنية وعسكرية، كما بات منصرفاً للحروب التي تخوضها إيران في الدول العربية من سوريا إلى العراق واليمن».

حروب ضد غزّة

وقائع المواجهة الإسرائيلية في لبنان، قد تكون مشابهة لحروبها داخل الأراضي الفلسطينية، خصوصاً مع قطاع غزّة الذي صنّفته تل أبيب «كياناً معادياً لها» بعد سيطرة حركة «حماس» عليه، وشنّت عملية واسعة ضده مطلع شهر يونيو 2006، عنوانها تحرير الجندي جلعاد شاليط الذي أسرته حركة «حماس» وفرضت حصاراً شاملاً على القطاع. في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، بدأت إسرائيل حرباً على قطاع غزة استمرّت 23 يوماً، أطلقت عليها اسم «عملية الرصاص المصبوب»، وردت عليها الفصائل الفلسطينية بعملية أسمتها «معركة الفرقان»، كان هدف قيادة إسرائيل «إنهاء حكم حركة (حماس) في القطاع»، والقضاء على المقاومة الفلسطينية وإنهاء قصف المستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ، وأسفرت هذه الحرب عن أكثر من 1430 قتيلاً فلسطينياً، وتدمير نحو 10 آلاف منزل دماراً كاملاً أو جزئياً، في حين اعترفت إسرائيل بمقتل 13 إسرائيلياً بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين. ثم، وفي 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، شنّت إسرائيل حرباً على غزّة استمرت ثمانية أيام، هدفها «تدمير المواقع التي تخزن فيها الصواريخ، وهي انطلقت على أثر اغتيال إسرائيل قائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة «حماس» أحمد الجغبري، وأدت الحرب إلى مقتل 180 فلسطينياً و20 إسرائيلياً. توالت العمليات الإسرائيلية الموسعة ضد قطاع غزة، وفي السابع من يوليو 2014 أطلقت الدولة العبرية عملية «الجرف الصامد» التي استمرت 51 يوماً، نفذ خلالها الجيش الإسرائيلي أكثر من 60 ألف غارة على القطاع، أسفرت عن مقتل أكثر من 2300 فلسطيني ونحو 11 ألف جريح، في حين قُتل 68 جندياً إسرائيلياً و4 مدنيين. وفي الخامس من أغسطس (آب) 2022 اغتالت إسرائيل قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لـ«حركة الجهاد الإسلامي»)، استتبعتها بعملية أسمتها «الفجر الصادق»، وعلّلت اختيار تلك التسمية بأنها «لتأكيد تركيزها على (حركة الجهاد) التي تتخذ اللون الأسود شعاراً»، وردت «الجهاد الإسلامي» بعملية أسمتها «وحدة الساحات»، وأطلقت خلالها مئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وطالت الصواريخ مطار بن غوريون. ورغم استمرار معاناة الفلسطينيين منذ النكبة، يرى عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين هيثم زعيتر، أن إسرائيل «ورغم قوتها العسكرية الهائلة لم تحقق غايتها من الحروب داخل فلسطين». ويشير في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزّة، والمجازر التي ترتكبها أسبوعياً لم يوفر السلام لمواطنيها». ويتحدث عن عامل مهمّ للغاية يتمثل بـ«انتقال عمليات المقاومة إلى أراضي 1948، والمواجهة الشرسة مع القوات الإسرائيلية خلال تدنيس المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتجريف الأراضي والمنازل والتصدي الدائم للتوسع الاستيطاني».

«أوسلو المتبخر»... يتبرأ منه الجميع ويتنفسون من رئته..

30 عاماً من الاتفاقات الفلسطينية ــ الإسرائيلية المُعلقة

الشرق الاوسط...رام الله: كفاح زبون.... مشهدان لا ينساهما الفلسطينيون بشكل خاص؛ نزول الرئيس المصري أنور السادات من طائرته في مطار بن غوريون الإسرائيلي يوم الـ19 من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1977، بعد سنوات من حرب أكتوبر، والمصافحة التاريخية بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض الأميركي في 13 سبتمبر 1993، بالنظر إلى أن الرجلين حاربا إسرائيل طويلاً في معارك كبيرة وصغيرة، ومثّلا، كلٌّ في مرحلة ما من تاريخ بلاده، رمزاً لنصر نهائي محتمل كان يداعب عقول الفلسطينيين والعرب. متفقان أحياناً كثيرة، ومختلفان أكثر حول مفاهيم متعلقة بالحرب والسلام، قبل أن يلتحق عرفات بالسادات ويقبل ببدء طريق كان عرضه عليه قبل سنوات طويلة. بالنسبة لعرفات والفلسطينيين، كان اتفاق «أوسلو» الذي أنجز بعد «معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية» بـ14 عاماً، تحولاً كاملاً ومربكاً إلى حد كبير. يروي الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في مذكّراته حول المصافحة التاريخية بين عرفات ورابين كيف أنهما تصافحا بعد لحظات من التردد، وتمارين كان أجراها سابقاً (كلينتون) مع معاونيه لكي يتأكد من تفادي أي معانقة، وذلك عبر وضع يده اليسرى على الذراع اليمنى لعرفات. كانت المصافحة التاريخية إعلاناً صريحاً للعالم بولادة «اتفاق أوسلو» الذي لم يحقق للطرفين ما أرادا منه؛ فمن جهة لم يجلب الأمن للإسرائيليين، وعلى الجانب الآخر لم يحقق الدولة للفلسطينيين. كان يفترض أن يكون «اتفاق أوسلو» مؤقتاً ينتهي بإقامة دولة فلسطينية بعد 5 سنوات من توقيعه، أي في عام 1998. لكن الاتفاق تحول من مؤقت إلى دائم ظل حياً، لكنه في وضع موت سريري.

حصار للجميع

«اتفاق أوسلو» إنه «اتفاق إعلان المبادئ - حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية»، وتم توقيعه في 1993/9/13. ونصّ الاتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلية على مراحل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنشاء «سلطة حكم ذاتي فلسطينية مؤقتة» لمرحلة انتقالية تستغرق خمس سنوات، على أن تُتوج بتسوية دائمة بناء على القرار رقم 242، والقرار رقم 338. كذلك تحدث الاتفاق عن وضع «حد لعقود من المواجهة والنزاع»، وعن اعتراف كل جانب «بالحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة» للجانب الآخر.

وتعامل الاتفاق مع الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم، بوضوح تام آنذاك، وتضمن أن:

أ - تبدأ فترة السنوات الخمس الانتقالية عند الانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا.

ب -تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة إسرائيل وممثلي الشعب الفلسطيني في أقرب وقت ممكن، ولكن بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.

ت - من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، واللاجئون، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية، والحدود، والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات اهتمام مشترك. وتمخض الاتفاق، كذلك، عن تشكيل لجنة الارتباط المشتركة الإسرائيلية - الفلسطينية من أجل معالجة القضايا التي تتطلب التنسيق وقضايا أخرى ذات اهتمام مشترك، والمُنازعات.

ويتضح من النص أنه كان اتفاقاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وينظم العلاقة بين الطرفين... ولكن ما الذي طُبّق منه على الأرض؟

بعد سنوات قليلة فقط، توقفت إسرائيل عن استكمال عملية انسحاب قواتها المقررة من المناطق، وبدلاً من ذلك زادت من نشاطاتها الاستيطانية في كل مكان، بل استباحت المناطق المصنفة «أ»، وهي الأراضي الواقعة تحت الولاية الأمنية الفلسطينية الكاملة. وخلال السنوات اللاحقة، رفضت إسرائيل مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية التي تتحكّم بقدرة الاقتصاد الفلسطيني على التطوّر والاستقلال، واتخذت إسرائيل إجراءات أدّت إلى تعطيل المرحلة الانتقالية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال. لكن مسألة واحدة لم تخلّ بها إسرائيل أبداً، وهي المسألة الأمنية؛ إذ استمرت في احترام التنسيق الأمني مع السلطة. وخلال 30 عاماً كاملة، على اتفاق «أوسلو» يمكن القول إن السلطة الفلسطينية جاهدت من أجل إبقائه حياً، رغم إعلانها مراراً أنه منتهٍ، فيما أرادته إسرائيل في غرفة العناية المركزية، لا حياً ولا ميتاً، بينما عملت مجموعات مثل «حماس» على إسقاطه بالقوة، رغم أنها شاركت في السلطة التي نشأت بموجبه. لم يستطع الفلسطينيون التخلص منه؛ لأنهم ببساطة لا يمكن أن يحتفظوا بالسلطة من دون «أوسلو»، أما الإسرائيليون فإن إعلانهم أنهم في حِلّ منه، يعني حَلّ السلطة الفلسطينية وعودتهم إلى احتلال الضفة الغربية، وهو آخر ما يريدون أن يصلوا إليه. باختصار يكرهه الجميع لكنهم يتنفّسون من رئته، حتى إنه ظل يحاصرهم ويفرّخ اتفاقات أخرى.

تفاهمات بلا تطبيق

وجدت السلطة نفسها معلقة بـ«أوسلو»، وفي محاولة إبقائه على قيد الحياة عقد الفلسطينيون اتفاقات أخرى مع إسرائيل يمكن وصفها بملاحق «أوسلو» أو «أولاد وبنات الاتفاق الأم»، مثل اتفاق «غزة - أريحا» (1994)، واتفاق «باريس الاقتصادي» (يوليو «تموز»، 1994) واتفاقية «طابا أو أوسلو الثانية» (1995)، واتفاق «واي ريفر الأول» (1998)، و«واي ريفر الثاني» (1999)، ثم «خريطة الطريق» ثم اتفاق «أنابوليس» (2007). بعد ذلك، عقد الطرفان سلسلة من الاجتماعات ودفعوا إلى الأمام تفاهمات، من بينها مفاوضات أطلقها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في 2013، واجتماعات خماسية أمنية في العقبة في المملكة الأردنية، وشرم الشيخ في مصر هذا العام، لكنها جميعها لم تنجح.

بلا التزام

لم يلتزم الإسرائيليون بأي اتفاق عقدوه مع الفلسطينيين، بل أوصلوا السلطة راهناً إلى مرحلة ضعف غير مسبوقة، بعدما غيروا إلى حد كبير وظيفتها، وبدأت تعيش واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق، تقلّصت فيها المساحات التي تسيطر عليها من دون أفق سياسي واقتصادي، مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ويكفي ما أشارت له منظمة «السلام الآن» اليسارية الإسرائيلية حول أن اتفاقية «أوسلو» قبل 30 عاماً، ساهمت بشكل كبير في زيادة عدد المستوطنات والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة من 110 آلاف مستوطن في الضفة الغربية، ونحو 140 ألف مستوطن في شرق القدس آنذاك إلى 465 ألف مستوطن في الضفة الغربية، اليوم يقيمون في نحو 300 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وما يقارب 230 ألف مستوطن في شرقي القدس، وهو وضع فرض على الطاولة سؤالاً معقداً حول ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستحل نفسها أو تنهار. الأكيد أنها لا تخطط لذلك، لكن أمين سر اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير» حسين الشيخ، أقر بأن السلطة غير قادرة، قائلاً لمجلة «فورين بوليسي» إن «السلطة غير قادرة على تقديم أفق سياسي للشعب. وإنها غير قادرة على حل مشاكل الشعب المالية والاقتصادية الناتجة عن الاحتلال، ولكن ما البديل للسلطة الفلسطينية؟... الفوضى والعنف».

خيارات جديدة

يمكن فهم التوجه العام في رام الله من خلال تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، في كلمة له خلال اجتماع المانحين AHLC في مقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، قال فيها إن «اتفاق (أوسلو) للسلام تبخر في كل الجوانب؛ الأمنية والسياسية والقانونية والمالية»، متهماً الحكومة الإسرائيلية بالعمل بشكل منهجي على تقويض قيام الدولة الفلسطينية، ودفع السلطة الوطنية إلى حافة الانهيار.

لكن إذا كانت السلطة تعد «أوسلو» قد تبخر، فما هو بديله؟

يطالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أمام الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، «تجسيد استقلال دولة فلسطين كاملة السيادة بعاصمتها القدس الشرقية، على حدود عام 1967، وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، وخاصة القرار 194، وتطبيق قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، التي تؤكد عدم شرعية الاحتلال والاستيطان، خاصة القرار 2334، وكذلك مبادرة السلام العربية». تصريحات عباس هذه أعادت «مبادرة السلام العربية» إلى الواجهة، بعدما حاولت إسرائيل إبقاءها طي النسيان.

المبادرة العربية

و«مبادرة السلام العربية»، هي مبادرة أطلقها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، في «قمة بيروت» عام 2002، عندما كان ولياً للعهد، وتهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية، وعودة اللاجئين، والانسحاب من هضبة الجولان، مقابل السلام مع إسرائيل. وطالبت المبادرة إسرائيل بـ«الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو (حزيران) 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان». ودَعت كذلك لقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية. وتتضمن المبادرة أنه إذا استجابت إسرائيل لتلك المطالب فعندئذ تَعدّ الدول العربية النزاع العربي - الإسرائيلي منتهياً، وتدخل في «اتفاقية سلام» بينها وبين إسرائيل، مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة. رفض الإسرائيليون الاقتراح مراراً وتكراراً، وبعدما ظنوا أنه أصبح طي النسيان، وبثوا عبر وسائل إعلامهم أن محادثات اتفاق سلام محتمل مع السعودية تتجاهل المبادرة، قال سفير المملكة العربية السعودية لدى فلسطين، قنصلها العام في القدس، نايف بن بندر السديري من رام الله، مرتين على الأقل، إن «مبادرة السلام العربية نقطة الارتكاز لأي عملية سلام مستقبلية»، و«النقطة الأساسية في أي اتفاق قادم». تصريحات السديري التي لم تعجب إسرائيل كان متفقاً عليها مع الفلسطينيين. وقال اشتية نفسه في أثناء لقائه السديري لاحقاً إن هناك توافقاً فلسطينياً - سعودياً على أن مبادرة السلام العربية هي الأساس المقبول لكل الأطراف. وقال مسؤول فلسطيني لم تكشف هويته لوسائل إعلام إسرائيلية: «لقد أوضح لنا السعوديون أنهم لن يتخلوا عن القضية الفلسطينية، صحيح أن ما يتم مناقشته الآن أقل من الدولة. لكن نحن نتحدث عن طريق للوصول إلى هناك».

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,895,796

عدد الزوار: 6,970,896

المتواجدون الآن: 110