الوجدان المسيحي اللبناني: الثوابت والمتغيّرات

تاريخ الإضافة الأحد 17 حزيران 2012 - 7:25 ص    عدد الزيارات 878    التعليقات 0

        

الوجدان المسيحي اللبناني: الثوابت والمتغيّرات

بقلم ميشال أبو نجم

 

 ارتكز الوجدان المسيحي اللبناني تاريخياً على جملةٍ من الثوابت التي صنعت الإطار الفكري والسياسي الذي تتحرك من ضمنه غالبية النخب السياسية والفكرية المسيحية منذ تأسيس لبنان الكبير.

فقد أتى لبنان بصيغته الحالية نتيجةً لحراك تاريخي قاده الموارنة منذ قرون نحو إقامة وطنٍ يؤمن فسحةً من الحرية والليبرالية والمساواة واحترام التنوع في محيطٍ افتقر إلى التفاعل مع هذه المفاهيم وعيشها، وشكّل معبراً للتواصل مع القيم التي جسدها الغرب في الحداثة والليبرالية والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها. وبسبب السعي للحفاظ على هذه المكتسبات "الثمينة"، ومع تنامي الصراع الدولي الإقليمي حول لبنان لموقعه الجيواستراتيجي واستخدامه كساحة، وبروز تحديات كبيرة كصعود الناصرية وصراع 1958، وصولاً إلى انتقال المنظمات الفلسطينية المسلحة بعد حرب 1967، بات للوجدان المسيحي اللبناني عناوين عريضة تتمثل بمواجهة أي محاولة لتحويل لبنان ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية، والتوجس من أي تيارات قومية أو دينية أو إيديولوجية عابرة للأوطان، وتأكيد التحالف السياسي مع الغرب، والحفاظ على دور أساسي للمسيحيين في النظام السياسي والتمسك بمحورية رئاسة الجمهورية والدفاع عن الجيش اللبناني، "قدس الأقداس".
ترجم ذلك سياسياً وعسكرياً بمواجهة المد الناصري، ثم المنظمات الفلسطينية المسلحة بدءاً من العام 1969، والنظام السوري عندما تراجع عن سياسة تحجيم وضرب القوة الفلسطينية في أولوياته الإقليمية في العام 1978، وبالخوف والتوجس من القوة الإيرانية الهادرة في الثمانينات شعاراتٍ إسلامية إيديولوجية. وقادَ ذلك قوىً مسيحية فاعلة في الحرب إلى التحالف مع محور إقليمي عربي قوامه الدول العربية المحافظة (السعودية، الأردن، ...)، وانزلاق بعضها إلى خطأ العلاقة مع إسرائيل، ولاحقاً بناء علاقة مع عراق صدام حسين ومنظمة التحرير الفلسطينية في منتصف الثمانينات، إضافةً إلى التحالف مع الدول الغربية وفي طليعتها أميركا وفرنسا. اقتصر التحدي في ذلك الحين على أهداف محصورة بالوطن اللبناني ولم يتعدّه إلى الدخول في مشاريع إسقاط أنظمة.
كان ذلك في مرحلة ما قبل منعطف الطائف، وقبل الزلازل الكبرى: اجتياح العراق وانتزاع الشيعة لأول مرة في تاريخهم الحديث قيادة بلدٍ عربي، تصاعد وتيرة الصراع السني - الشيعي على مستوى المشرق العربي والخليج، الإنسحاب السوري من لبنان واغتيال رفيق الحريري، وما أدت إليه من هزاتٍ ارتدادية أبرزها تنامي الحركات التكفيرية العنفية واستخدامها على محور العراق – سوريا- لبنان، تهجير المسيحيين من العراق، التحالف الرباعي المرعي إقليمياً في انتخابات 2005 ومحاولة تهميش القوة المسيحية الرئيسية، زعزعة استقرار لبنان والصراع الدامي الذي تُرجم اغتيالاتٍ متتالية ونزاعات على السلطة والسياسة الخارجية، الإندفاع الأميركي لإسقاط النظام السوري ودخول العامل الإسرائيلي على الخط في حرب تموز 2006.
لم يعد تالياً بالإمكان مقاربة التحديات الناتجة عن التغيرات المتسارعة بالمنطق التقليدي القديم، على ما تدعو إليه قوى ومنظرون مسيحيون يفخرون بما يصفونه بالحفاظ على ما يسمى "ثوابت" الوجدان المسيحي اللبناني إزاء كل هذه الزلازل، أي عملياً الإستمرار في التحالف مع محور عربي معيّن ومع مكون واحد من المكونات اللبنانية، والإنخراط في سياسات عزل وإقصاء، ومواصلة الإعتماد العبثي على غربٍ لا يعنيه لبنان ولا وجود مسيحييه وثابتتاه الوحيدتان إسرائيل والنفط. وبانت منذ ذلك الحين، سلسلة مخاطر في الأفق وتوجهات معينة حيالها. الثوابت هي نفسها: حماية لبنان كفسحة حرية وليبرالية وعدم الإستناد إلى أي نصّ ديني في الدستور والنظام، وحماية الإستقرار في منطقة مهتزة باستمرار، والحفاظ على دور أساسي للمسيحيين في السلطة، لكن المخاطر الجديدة هي:
- الإنزلاق إلى لعبة ارتدادات الصراع الإقليمي والمذهبي والدولي على النظام السوري والسعي لإسقاطه (في مرحلة 2005-2006 وصولاً إلى اليوم)، وبالتالي استدراجه مجدداً إلى لبنان وإضاعة إنجاز الإنسحاب واستعادة القرار الحر. في الأساس هي لعبة خطيرة أكبر من أي فريق لبناني ولم يسعَ إليها أي فريق مسيحي في عز المواجهات الحربية مع القوات السورية!
- تصاعد حدة الصراع المذهبي إقليمياً وانعكاسها لبنانياً في الصراع الحاد على السلطة، ومحاولات عزل وإقصاء شرائح لبنانية معينة، وتجاهل هواجسها التاريخية ومخاوفها.
- تنامي خطر المنظمات المتشددة والتكفيرية التي تروج لفكرٍ إلغائي للآخر ولا تحترم موجبات التنوع الإجتماعي. هذه المنظمات تُستغل سياسياً من قبل أطراف متعددة، لكنها نتاج بيئة فكرية متشددة منذ قرون ولم يخترعها البطريرك الراعي أو العماد عون!
- النوم على حرير الدعم السياسي للدول الغربية غير المعنية إلا بمصالحها المادية والمتحالفة مع أنظمة تساهم في الدعم المالي للحركات المتشددة، خاصةً أنَّ أمثولات التخلي الغربي عن مسيحيي لبنان والمشرق باتت أكثر من أن تُحصى، وفي ظلِّ تحولاتٍ استراتيجية في النظام الدولي وصعود قوى بارزة، باعتراف المنظرين الإستراتيجيين الاميركيين أنفسهم.
لم تكن هذه التحديات والمخاطر، والتي بدأت تباشيرها قبل تداعيات التغيرات العربية المتسارعة، واضحة في السنوات الماضية لدى قسمٍ كبير من المسيحيين اللبنانيين، لكن ما يحصل في العالم العربي وخاصةً في المشرق والخليج، أظهر بوضوحٍ تام مدى خطورة التحديات الداهمة، ويقود إلى عددٍ من الخلاصات الأساسية:
- إنَّ التدخل الميداني والعسكري في النزاع السوري، وتشريع الباب أمام إقامة "فتح لاند" جديدة و"حسن الإستضافة" للنزاعات الخارجية، لا يصب في خانة حماية لبنان، لا بل انه مناقض لمصلحة اللبنانيين عموماً ويضرب السيادة باستدراج التدخل السوري. إن عدم الإعتبار من الأمثولات القاسية لمقولة "كلنا فدائيون" والإصرار على شعارات "سوريا أولاً" و"كلنا جيش سوري حر" سوف يودي بلبنان إلى التهلكة، ويتحمل رافعوها وداعموها ومنظروها المسؤولية أمام الله والتاريخ! ثم إن تحميل المسؤولية للنظام السوري فقط بالتدخل في لبنان بات شعاراً مستخفاً بالعقول، فلنقم بواجباتنا بإقفال أبواب وطننا في وجه النار المشتعلة قبل محاسبة الآخرين!
- إنَّ الهجوم على الجيش اللبناني من أيِّ جهةٍ أتى، ومحاولة ثنيه عن أداء دوره والتحريض عليه، وتغطية كل ذلك أو تجاهله، هو مسّ بالكيان اللبناني نفسه وضرب للمقدسات!
- إنَّ صعود الحركات المتشددة يمثّل تهديداً للميثاقية اللبنانية وللمنطلقات التأسيسية التي قام عليها لبنان، في احترام الآخر المختلف والتنوع والليبرالية والحداثة، والتغاضي عن خطورة انتشار وتمدد هذه الحركات سوف يشجع على نشر الفكر الإلغائي للآخر المختلف حتى داخل الطوائف التي ينتمون إليها، وعلى الإستهتار بالقوانين وبالجيش، كما أبرزته كل الأحداث من الضنية في العام 2000 حتى الساعة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ تشجيع نمو هذه الحركات على قاعدة مواجهة "البعبع" الشيعي يرتد على أصحابه أولاً، كما أثبتت ذلك كل تجارب استغلال الحركات المتشددة وخاصةً تلك المقاتلة، من قبل قوى عربية ودولية.
- إن تصنيف المحاور الإقليمية التي تتصارع في المنطقة بين محور "شيطاني"، وآخر محافظ و"معتدل" و"خيّر"، هو تضليل كبير للناس! إذا كانت إيران وسوريا تدعمان "حزب الله"، فإن ذلك لا يعني أن السعودية وقطر وغيرها من الدول العربية لا تستعمل لبنان ساحة للتجاذب ولا تدعم أفرقاء آخرين، بدأ سلاحهم اليوم يظهر بقوة وفاعلية في شوارع طرابلس وغيرها! خاصةً بعد أن تحوّلت السعودية نحو سياسة هجومية في الخليج والمشرق بعد اجتياح العراق وصعود القوة الإيرانية.
- العلاقة الثقافية والحضارية مع الغرب ثابتة أكيدة. لكن النأي عن وضع المسيحيين اللبنانيين والمشرقيين في "بوز المدفع" تغطية لمصالح الدول الغربية وصفقاتها الإقليمية، هو صمام أمان للمسيحيين.
- استقرار لبنان هو هدف أساسي تهون في سبيله كل التضحيات، وهو مسؤولية اللبنانيين أولاً وأخيراً ويقتضي الإبتعاد عن المغامرات الإنتحارية ولو كانت مغلّفة بشعارات رومنسية.
لم يعد من المنطقي التكلم مسيحياً بلهجة الثمانينات... التحولات العاصفة في الخليج والمشرق العربي تستدعي أكثر من التجاهل والإختزال والتشرنق والرومنسيات النخبوية. إنها تستدعي توسيع الأفق!

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,645,466

عدد الزوار: 6,958,835

المتواجدون الآن: 77