ندوب الحرب الأولى في الشرق الأوسط ... تحدّيا الحرية والازدهار معلّقان...

تاريخ الإضافة الأربعاء 18 نيسان 2018 - 8:10 ص    عدد الزيارات 1123    التعليقات 0

        

ندوب الحرب الأولى في الشرق الأوسط ... تحدّيا الحرية والازدهار معلّقان...

الحياة....أوجين روغان جاستين ماروزي ... في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1914، سأل شيخ الإسلام (العثماني) أورغوبلو خيري أفندي، في فناء جامع الفاتح بإسطنبول: حين يعتدي عدو على دار الإسلام، ويستولي على بلاد المسلمين وينهبها ويأسر المؤمنين، وحين يأمر جلالة السلطان الباديشاه محمد الخامس بالجهاد والتعبئة العامة، هل يكون فرض عينٍ على جميع المسلمين؟ وهل يجب الجهاد على مسلمي العالم، شباناً وشيباً، راجلين وخيالة، بأرزاقهم وأموالهم؟ الجواب هو نعم. وكان لهذه الفتوى أثر مشهود طوال الأعوام اللاحقة، على رغم أن مؤرخين كثيرين يقللون من دور الجهاد في الحرب الألمانية على الحلفاء. وذهب بعضهم إلى نفي هذا الدور. والإقرار بأن الدور لم يكن مدمراً، ولم يبلغ المبلغ الذي توقعه وأراده الداعون إليه، ينبغي ألا يسقطه من فحص الموازين العسكرية. فهو عسكرياً نظير «الثورة» العربية التي ساندها البريطانيون، وبدا أثرها المباشر جلياً، فقام (بعض) العرب على من هم من أهل دينهم وأسيادهم المتسلطين عليهم منذ زمن طويل.

ولكن المقارنة بين الحركتين تغفل مفعول الجهاد في كتلتي المحور والحلفاء. فهو لم يؤدِّ إلى ثورة إسلامية عالمية، إلا أنه خلف تأثيراً لا ينكر في الاستراتيجيتين البريطانية والفرنسية، إلى حين سقوط بيت المقدس، في تشرين الثاني 1917. وخشي البريطانيون أن تؤدي الهزائم التي أوقعها العثمانيون فيهم إلى قيام المسلمين في مستعمرات الهند ومصر عليهم. وحملتهم خشيتهم على توجيه جهدهم الحربي وإدارته في ضوء هذا الاحتمال. فلا يجوز، بهذه الحال، نفي أثر الجهاد في الحرب الأولى.

والرأي الغربي في الجبهة العثمانية قضى بإهمال مسرح العمليات على هذه الجبهة. ومعظم الأوروبيين، على مثال البريطانيين والفرنسيين، يقتصر ما يعرفونه من الحرب الكبرى (الأولى) على الجبهة الغربية. ويميل جامعيو القارة (الأوروبية) إلى رؤية النزاع في الشرق الأوسط من منظور بريطاني، وإلى ترديد كليشيهات بالية مثل «هزيمة تشرشل» في غاليبولي، و «استسلام تاونسند» في الكوت غداة واحدة من أشد الهزائم عاراً في التاريخ العسكري الإنكليزي، و «دخول الجنرال مود» بغداد في آذار (مارس) 1917 وحسمه 383 سنة من السيطرة العثمانية، و «فتح اللنبي القدس» في تشرين الثاني من العام نفسه. وهذه الكليشيهات لا تنسى، طبعاً، لورانس العرب، الرجل الغامض والبريطاني النموذجي الذي مجده الإنكليز زمناً طويلاً، ونصبوه زعيماً على «الثورة العربية الكبرى». وأنكر العرب على الدوام هذا الرأي. وآخر نقاده المؤرخ العراقي المرموق علي علاوي، في سيرة ملك العراق فيصل الأول (الصادرة عن مطابع جامعة ييْل، 2014).

وأخيراً، يُقرّ بأن غاليبولي والكوت وغزة أنتصارات عثمانية حاسمة، أحرزها العثمانيون عن جدارة، على قدر ما هي هزائم بريطانية ملحمية. وعلى خلاف حساب الحلفاء وتوقعهم، لم تتصدع الجبهة العثمانية، ولم تشق الطريق إلى خاتمة الحرب سريعاً، بل تماسكت، وكانت من عوامل دوام الحرب وسبباً في مقتل ملايين البشر. واعتاد المؤرخون إهمال مشاعر الجنود والمدنيين الترك والعرب وآراؤهم فيما يلم بهم، على رغم أن عدداً كبيراً من المذكرات كتب ونشر. وهذه النصوص قد تكون أليمة، وقد تكون مسلية، ولا شك في الأحوال كلها أنها مشبعة بالإنسانية، وتقرّبنا من تجربة الجنود العاديين واختبارهم الحرب، وتتيح مقارنة ما يعانونه بما عاناه الجنود الغربيين. وتطرق سمعنا أصوات رجال مثل العريف علي رضا عطي، وهو طبيب جنّد لقتال الروس في كوبروكوي، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1914، أوائل أنخراط العثمانيين في الحرب. ويدوّن عطي إيقاع الرصاص الرهيب: «كان هذا يومي الأول في الحرب، وغلبني خوف حاد من الموت. ومع عويل كل رصاصة، كنت أنضح عرقاً وأرتجف من أخمص قدمي إلى أسناني».

ويوميات الجنود الفرنسيين والعثمانيين على حد سواء تشهد على الرعب الذي يسطو على الجنود جميعاً حين يبلغ سمعهم حفر العدو الأرض تحت خطوطهم. ونظم الترك قصائد كثيرة، سيئة جداً في معظم الأحيان، على شاكلة القصائد التي نظمها نظراؤهم على الجبهة المقابلة. فتجربة الحرب كانت على قدر من الهول تحدى طاقة النثر، فلجأ الجنود إلى الشعر لعله ينهض بالتحدي.

ورد ضباط تركيا الفتاة على ولادة الحركة القومية العربية، وسعيها في تحصيل حقوق الرعايا العرب، بقمع متعاظم في أثناء الأعوام التي سبقت أندلاع الحرب. فنفي عشرات آلاف الشباب العرب عقاباً لهم على عقائدهم السياسية، وبضع عشرات منهم علقوا على المشانق، في 1916، ببيروت ودمشق. وفظاظة العثمانيين، إلى عسر الأحوال في سني الحرب، غذت نوازع العرب الانفصالية. ورأى توماس إدوارد لورانس أن «الثورة العربية الكبرى» «جبهة ثانوية على مسرح ثانوي». والحق يقال، كانت الجبهة العثمانية شأناً دولياً جعل النزاع الأوروبي حرباً عالمية (أولى). وتحالف البريطانيون، على هذه الجبهة، مع جنود أتوا من جنوب شرقي آسيا، ومع شمال أفريقيين ونيوزيلينديين وأستراليين وسنغاليين وسودانيين وفرنسيين، في سبيل قتال جيش عثماني كثير اللغات ومؤلف من ترك وعرب وكرد وأرمن وشركس. فهذه الجبهة برج بابل، وعليها اقتتل جيوش من العالم أجمع.

والاضطرابات التي تعصف اليوم في الشرق الأوسط تتردد أصداء بعضها في صراعات تلك الأيام. وقد ننسى أن الحرب دارت دوائرها على معظم أراضي الشرق الأوسط. وبعض المعارك ألحقت الأضرار في سكان العراق وسورية ولبنان ومصر والأردن وفلسطين والحجاز وإيران وتركيا. ويعد الذين أصابتهم بالملايين. والعامل الآخر الذي يدعو إلى تجديد النظر في الحرب الأولى هو خطط التقسيم التي أعدها البريطانيون في أثناء الحرب، وتوصف بـ «الخبث العميق». فهي وعدت عدداً من الشعوب بأراضٍ واحدة. وفحص جملة هذه الاتفاقات في إطارها العسكري المباشر يدل دلالة واضحة على إنزال الديبلوماسية محلاً ثانوياً. ففي 1915، عقدت بريطانيا وفرنسا اتفاق إسطنبول، ووعدتا روسيا بعاصمة السلطنة ومضائق الدردنيل. فهما كانتا على ثقة بسقوط إسطنبول الوشيك.

والمراسلات المديدة التي تبادلها الحسين شريف مكة، وهنري مكماهون، مفوض بريطانيا لدى مصر، في 1915- 1916، وعدت الهاشميين بمملكة عربية كبيرة تضم سورية وفلسطين. وولد الوعد من حاجة البريطانيين إلى حليف عربي يقارعون به الجهاد العثماني. وعقدت بعدها اتفاقات مارك سايكس وجورج بيكو، بين بريطانيا وفرنسا، في 1916. وقسمت الاتفاقات الشرق الأوسط مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، واستبقت أنهيار السلطنة القريب. وعدل إعلان بلفور في 1917 اتفاقات الديبلوماسيين البريطاني والفرنسي ورجحت كفة النفوذ البريطاني في فلسطين.

وبعد إحراز النصر على السلطنة العثمانية المتداعية، انتبهت القوى الكبرى إلى الشرق الأوسط، وتنافست على تقاسم حصصه فيما بينها. وفي الأعوام الأخيرة من عهد العثمانيين السنّة، وغداة ثورة تركيا الفتاة في 1908 على نظام السلطنة، تمثلت أقوام السلطنة في إسطنبول تمثيلاً عادلاً، وألغيت أحكام أهل الذمة، من يهود ومسيحيين. وحلت إدارة إمبريالية أوروبية محل الحكومة الإسلامية. وعزم الأسياد الجدد على خنق تطلعات العرب إلى الاستقلال، بعد أن كانوا هم من غذاها، ونفخ فيها، قبل أعوام قليلة.

ولا شك في أن النزاع خلف في المنطقة آثاراً بالغة السوء والأذى. وفاق ضرر هذه الآثار في الشرق الأوسط ضررها في مناطق العالم الأخرى. وعلى رغم أن البريطانيين والفرنسيين أرسوا نظام دول إقليمياً متيناً وثابتاً، صمدت حدوده طوال قرن كامل، فإنهم تركوا مشكلات وطنية معقدة ومعلقة أدت إلى خلخلة المنطقة واضطرابها. فهذه الحدود، لم يحل رسوخها دون أنفجار نزاعات كثيرة هي من ذيولها، أبرزها النزاع الفلسطيني والنزاع الكردي. ومنذ ولادة لبنان، زرعت بذور الخلافات بين الجماعات الدينية في التربة الداخلية، وبقي البلد ضعيفاً في وجه مطامع سوريا التي لم تسلِّم أبداً بخسارة هذه الأراضي. وربما لم يخلق التاريخ جروحاً وندوباً في بلد مقدار ما خلَّف في العراق. وكان البريطانيون أنشأوه من ضم 3 ولايات عثمانية متفرقة: الموصل وبغداد والبصرة. وبعد حقبة قصيرة ومتفائلة في عهد نظام ملكي دام من 1921 إلى 1958، عجز العراقيون عن السيطرة على حلقة الثورات المفرغة والانقلابات العسكرية والحروب والديكتاتوريات.

وفي 2014، افتتحت أوروبا دورة من «الاحتفالات» بالحرب العالمية الأولى- واستقبلت المئوية بالصمت بدلاً من إحياء ذكرى الانتصارات والهزائم. فالحرب الأولى منسية، وتُحمل على حرب تقاتل فيها الآخرون على رغم أن مسرحها هو بلاد الشرق الأوسط، والمقاتلين هم أهل هذه البلاد وكثير من القتلى. فالحرب ليست حربهم، ولم يختاروها هم. وهي اللعنة التي أودت بالسلطنة العثمانية، وبسطت سيطرة الإمبريالية الأوروبية، وشهدت آلاماً وأوجاعاً قاسية.

وغداة قرن كامل على النزاع الدولي، لا يزال التحدي الإقليمي الكبير في وقت السلم، وهو تحفيز التنمية وتوفير فرص عمل لشباب لا ينفكون يتكاثرون، متعثراً بكبوات ومعوقات ثقيلة. وما يحول دون اضطلاع المنطقة بمعالجة تحدياتها هو طبقات متعاقبة من المشكلات السياسية والنزاعات الإقليمية المتراكمة التي ترجئ إلى غدٍ مؤجل مشروع منطقة حرة ومزدهرة. فنزاعات اليمن وسورية والعراق وليبيا، إلى اضطراب الأحوال في مصر وتونس ولبنان والأردن والجزائر، تحمل الجميع على التشاؤم بمستقبل هذه الجهة من العالم، فلا حل في الأفق القريب لأي من هذه البلدان.

 

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,139,322

عدد الزوار: 6,756,431

المتواجدون الآن: 108