الأنفاق في غزة في مواجهة «البطالة»... بقاؤها مرتبط بالأساس ببقاء الحصار على القطاع

تاريخ الإضافة الإثنين 21 كانون الثاني 2013 - 5:59 ص    عدد الزيارات 742    التعليقات 0

        

الأنفاق في غزة في مواجهة «البطالة»... بقاؤها مرتبط بالأساس ببقاء الحصار على القطاع
غزة: صالح النعامي
من يقف عند تقاطع شارعي عمر المختار والجلاء يلفت نظره بشكل خاص السيارات الحديثة التي تمر أمام ناظريه، سيارات معظمها صينية وكورية الصنع، موديل عام 2013. لأول وهلة، يبدو هذا الأمر مستهجنا، لأن إسرائيل تمنع استيراد السيارات لقطاع غزة عبر المعابر التجارية بينها وبين القطاع منذ عام 2006 وفرض الحصار الصارم عليه، وتحديدا بعيد اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في 25 يونيو (حزيران) من ذاك العام، في عملية نفذتها حركة حماس ومجموعتان فلسطينيتان أخريان. لكن هذه السيارات لا تأتي عبر إسرائيل ولا المعابر التجارية الرسمية، بل يتم شراؤها في مصر وتهريبها عبر أنفاق التهريب، التي تربط غزة بسيناء.

وهذه السيارات التي تتراوح أسعارها ما بين 15 إلى 20 ألف دولار، طبعا ليست في متناول يد المواطنين العاديين، بل يقتصر شراؤها على بعض مرتفعي الدخل من معارض بيع السيارات وليس أي معارض، بل تلك التي تعمل مع تجار متخصصين في الاتجار بالسيارات المهربة. وتبقى نسبة القادرين على شراء هذه السيارات ضئيلة، من أصل أكثر من مليون وسبعمائة ألف فلسطيني يقطنون قطاع غزة. وترضى الأغلبية الساحقة بالسيارات المستخدمة، التي تدخل القطاع من إسرائيل.

بدأ الشروع في شراء السيارات في مصر ونقلها عبر الأنفاق للقطاع قبل عامين، عندما كانت الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية في الحكومة المقالة في غزة تفرض رقابة شديدة ووثيقة على تلك السيارات، وذلك للتأكد من أن هذه السيارات غير مسروقة. وكانت الحكومة تطالب تجار السيارات بتقديم كل الوثائق التي تثبت شراء هذه السيارات بطرق قانونية. وكثيرا ما أعادت السلطات في غزة لمصر عدة سيارات تبين لاحقا أنها مسروقة، في حين عوقب الأشخاص الذين ثبتت معرفتهم أنهم تجاروا فيها رغم علمهم أنها مسروقة.

وتتم عملية نقل البضائع عبر الأنفاق تحت رقابة مشددة من وزارة الداخلية، التي تشرف دوائرها على ما يجري هناك، في حين تقوم دائرة تابعة لوزارة المالية بتحصيل الضرائب المفروضة على هذه البضائع. ومنذ بداية عمل الأنفاق، حدثت ثلاثة تطورات أدت إلى تراجع وتيرة عمل الأنفاق بشكل واضح، كان أهمها أحداث «أسطول الحرية» في 31 مايو (أيار) 2010. وهو التطور، الذي اضطرت إسرائيل في أعقابه إلى تخفيف الحصار على قطاع غزة بشكل كبير، كرد فعل على هذه الأحداث، وفي محاولة منها لامتصاص رد الفعل الغاضب للمجتمع الدولي، ومنع تدهور علاقاتها مع تركيا، بعد قيامها بمداهمة «أسطول الحرية» وقتل عشرة من نشطاء السلام الأجانب، تسعة منهم من الأتراك.

وعمليا، سمحت إسرائيل بعد أحداث «أسطول الحرية» بدخول معظم المواد الغذائية التي كانت ممنوعة قبل ذلك، وهذا قلص إلى حد كبير من عمل الأنفاق؛ التي حفرت أساسا وبشكل خاص من أجل العمل في مجال استيراد المواد الغذائية عبر مصر ونقلها للقطاع. واضطر عدد من أصحاب هذه الأنفاق إلى وقف العمل فيها، في حين أن بعضهم حولها لاستيراد سلع أخرى، خاصة تلك السلع التي تفرض إسرائيل حظرا على شرائها، منها الأدوات الكهربائية والتقنية والطبية.

وفي بعض الأحيان، فإن بعض السلع التي باتت تسمح إسرائيل باستيرادها عبر المعابر التجارية بينها وبين القطاع، تكون غالية الثمن نسبيا، مما جعل بعض التجار يواصلون استيرادها عبر الأنفاق بأسعار أقل. وهناك جدل لا يتوقف بين التجار من جهة والمستهلكين من جهة أخرى حول جودة البضائع والمواد التي يتم استيرادها عبر الأنفاق وتلك التي يتم استيرادها عبر المعابر التجارية مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، قال غسان حمود، وهو فني سمكري، ذو خبرة في التعامل مع السيارات، إن السيارات التي يتم شراؤها في مصر وجلبها عبر الأنفاق أخف بكثير من السيارات التي كانت تدخل من المعابر التجارية مع إسرائيل. ويسوق غسان في تصريحات مع «الشرق الأوسط»، مثالا على ذلك بسيارة «هونداي فيرنا»، كورية الصنع، التي يتم استيرادها عبر الأنفاق، حيث ينقص وزنها بـ350 كيلوغراما عن نفس السيارة التي كان يتم استيرادها عبر المعابر التجارية مع إسرائيل.

وما ينطبق على السيارات، ينطبق على الكثير من السلع. وتتأثر فاعلية العمل في الأنفاق بالأنشطة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية المصرية، التي عادة ما تقوم بأنشطة ضد الأنفاق في أعقاب أي تطورات أمنية في سيناء. وقد بلغت هذه الأنشطة ذروتها في أعقاب الهجوم الذي نفذه مجهولون في رمضان الماضي ضد موقع للأمن المركزي المصري في محيط مدينة رفح المصرية، وأسفر عن مقتل ستة عشر جنديا مصريا. وحرصت الأجهزة الأمنية المصرية في حينها على إغلاق عدد كبير من الأنفاق. وفي أحيان كثيرة، تقول الأجهزة الأمنية المصرية إنها أغلقت أنفاقا بعد ورود معلومات عن استخدامها في تهريب السلاح لقطاع غزة.

وقد حولت الإجراءات الأمنية المصرية الكثير من أصحاب الأنفاق والعاملين فيها إلى مهن أخرى، أو من دون عمل. فقد تحول خليل، (29 عاما)، من سكان مدينة رفح (جنوب القطاع)، كان يعمل في أحد الأنفاق، إلى عامل بناء، بعد أن أغلقت السلطات المصرية النفق الذي كان يعمل فيه في أعقاب الهجوم، الذي استهدف الجنود والضباط المصريين. وقال خليل لـ«الشرق الأوسط» إن النفق الذي عمل فيه كان متخصصا بنقل أجهزة كهربائية، لكن الجانب المصري قام بسده، إلى جانب سد الكثير من الأنفاق في أعقاب الهجوم، الذي استهدف الأمن المصري في رفح.

ومن التطورات الأخرى التي أدت إلى تراجع الاستيراد عبر الأنفاق، صدور قرار مصري بالسماح بدخول مواد البناء لمشاريع إعادة الإعمار، التي تمولها دولة قطر وتشرف على تدشينها في قطاع غزة. وحتى قبل هذا التطور، كان من أهم الأدوار التي تقوم بها الأنفاق نقل مواد البناء لإعادة بناء وتأهيل المؤسسات والمباني التي تم تدميرها أو إصابتها بالضرر خلال الحرب العدوانية على غزة أواخر 2008 مطلع 2009. لكن في أعقاب سماح مصر بدخول كميات كبيرة من مواد البناء عبر رفح لاستخدامها في مشاريع إعادة الإعمار القطرية، فإن الحاجة للأنفاق في كل ما يتعلق بمواد البناء قد تراجع إلى حد ما.

ويوميا، تنقل عشرات الشاحنات الضخمة أطنانا من الإسمنت والحصمة والحديد من معبر رفح، إلى المخازن الخاصة بالشركات التي تنفذ المشاريع القطرية. لكن أحمد عيسى، صاحب محل بيع مواد البناء، المستوردة عبر الأنفاق، يقول إن فتح معبر رفح أمام مواد البناء المعدة لمشاريع إعادة الإعمار القطرية لم يؤثر على حجم المبيعات لديه، على اعتبار أن الكميات الكبيرة من مواد البناء التي تصل إلى القطاع عبر رفح موجهة فقط للشركات المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار القطرية، وليس للمحال التجارية الخاصة. وهذا يعني أن عمليات نقل مواد البناء عبر الأنفاق تتواصل من دون انقطاع، على اعتبار أن الأنفاق المتخصصة بنقلها، من أكثر الأنفاق نشاطا، إذ إن هذه الأنفاق بخلاف الأنفاق الأخرى مزودة بتقنيات خاصة تسمح بتسهيل نقل الإسمنت والحديد والحصمة والحديد.

وقال جمال، الذي يعمل في أحد الأنفاق المتخصصة بنقل المواد الغذائية لـ«الشرق الأوسط»، إنه يتم إعداد المواد بشكل يسمح بنقلها عبر الأنفاق، مشيرا إلى أن كل قضيب حديد يتم تقسيمه، بحيث لا يتجاوز طول كل جزء منه أربعة أمتار، كي يكون من السهل نقله. لكن هناك من يرى أن الاعتماد على الأنفاق في توريد مواد البناء سيتراجع بشكل كبير في المستقبل، لأن إسرائيل شرعت بالفعل في السماح بدخول بعض مواد البناء عبر المعابر التجارية التي تربطها بقطاع غزة. وحسب هؤلاء، فقد سمحت إسرائيل بنقل الحصمة، مع العلم أن ما يمر من مواد البناء خلال المعابر التجارية مع إسرائيل يصل إلى التجار في القطاع الخاص.

إن أحد مصادر اعتماد الفلسطينيين في غزة على الأنفاق يتمثل بشكل أساسي في مجال الوقود، فمن دون الأنفاق، فإن قطاع غزة يبقى من دون وقود على الإطلاق. فعبر الأنفاق، يتم ضخ البنزين والسولار عبر أنابيب مباشرة إلى صهاريج ضخمة تنقل الوقود إلى محطات الوقود. ومما فاقم الحاجة للوقود، ليس فقط ازدياد عدد السيارات في القطاع، بل بشكل أساسي انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، الذي جعل معظم العائلات الفلسطينية في القطاع تقتني مولدات كهربائية، تحتاج للوقود من أجل توليد الكهرباء. ومما يكرس قيمة الأنفاق الكبيرة في مجال الوقود حقيقة، أن سعر لتر البنزين يباع في قطاع غزة بأقل من سعره في الضفة الغربية، حيث يتم استيراده عبر إسرائيل. وقد أثر انخفاض سعر الوقود إلى هبوط في أسعار الكثير من السلع في القطاع، علاوة على أن تكلفة النقل العام لم تتغير في القطاع منذ عدة سنوات.

ومنذ عامين، لعبت الأنفاق دورا واضحا في مد قطاع غزة ببعض الأنواع من الخضراوات واللوزيات وبعض أنواع من الحمضيات، وعلى وجه الخصوص الكالمنتينا وبرتقال أبو سرة.

في الوقت ذاته، فإن كثيرا من الصيادين في سيناء أصبحوا يحرصون على بيع أسماكهم في غزة، إذ يقوم تجار بشراء هذه الأسماك ونقلها للقطاع عبر الأنفاق. من هنا، فإن كل من يتفقد أسواق قطاع غزة هذه الأيام يجد طفرة كبيرة في عرض السمك، تزامن تطوران أديا إلى هذه الوفرة من الأسماك، وهما: قرار إسرائيل السماح بزيادة مساحة صيد الأسماك، وتدفق الأسماك عبر الأنفاق من مصر.

وتفرض حكومة غزة ضرائب على السلع التي يتم استيرادها عبر الأنفاق، في حين أن كل من يشتري سيارة يجب أن يدفع جمرك لوزارة المالية في حكومة غزة. وهناك دائرة خاصة تعنى بتحصيل الضرائب على السلع التي يتم استيرادها عبر الأنفاق. لكن، من الواضح أن حكومة غزة تراعي لدى تحديد قيمة الضرائب حقيقة الأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة للناس هنا، مما جعلها تفرض ضرائب محدودة، وفي الوقت ذاته تفرض رقابة شديدة على الأسعار، التي تقوم بتحديدها، وتلزم التجار بها. فعلى سبيل المثال، يتم إلزام أصحاب محطات الوقود ببيع لتر البنزين بسعر محدد، بحيث تتم معاقبة كل من يخالف السعر. وفي ذات الوقت، يتم متابعة جودة السلع التي يتم استيرادها عبر الأنفاق، بحيث يجري التأكد من عدم فسادها وفقدان صلاحيتها، لا سيما إذا كانت مواد غذائية. وقامت السلطات المعنية بمصادرة كميات كبيرة من الأسماك الطازجة التي يتم استيرادها عبر الأنفاق قبل أسبوعين، بعدما تبين أنها فاسدة.

وتتم التجارة عبر الأنفاق بأشكال مختلفة، وفي الغالب يقتصر دور أصحاب الأنفاق على عملية التوصيل. ففي بعض الأحيان، يتوجه تجار من غزة للخارج ويقومون بشراء بضائع ويتم شحنها إلى مصر، ومن ثم يقومون بنقلها إلى قطاع غزة عبر الأنفاق. وفي أحيان، تقوم تجارة الأنفاق على أساس الشراكة، بحيث يقوم تاجر من مصر بشراء بضائع وإيصالها لشريكه في غزة عبر الأنفاق، بعد الاتفاق على صيغة ما لاقتسام الأرباح. وفي بعض الأحيان، تكون الأنفاق ملكا للتاجر، بمعنى أنه هو الذي يشتري البضاعة ويمررها عبر نفقه، ويقوم بعد ذلك بتوزيعها على تجار المفرق في القطاع.

وفي ما يتعلق بمرور الأشخاص عبر الأنفاق، فقد وضعت حكومة غزة قيودا صارمة على حركتهم، بعد توافر معلومات عن أن أشخاصا عبروا من خلال الأنفاق أسهموا في المس بالأوضاع الأمنية داخل قطاع غزة. فعلى سبيل المثال، لم يعد سرا أن عددا من قيادات الجماعات الإسلامية المتطرفة، الذين عملوا في قطاع غزة، قد قدموا للقطاع عبر الأنفاق. وقد قاد بعض هؤلاء تحركات عسكرية ضد حكومة غزة، بلغت أوجها في أحداث مسجد ابن تيمية في رفح، (أقصى جنوب قطاع غزة) عام 2010، عندما أعلنت جماعات السلفية الجهادية عن إمارة لها في المدينة، مما حدا بحكومة حماس للتصدي لها، ووقعت اشتباكات مسلحة أسفرت عن مقتل العشرات من الجانبين وكذلك أيضا اختطاف ناشط إيطالي وقتله.

ومن المظاهر السلبية لوجود الأنفاق، أنها أسهمت في تنفيذ جرائم وجنح ذات طابع جنائي. فعلى سبيل المثال، لأول مرة حدثت جرائم قتل وعمليات أخذ بالثأر، بل وعمليات اختطاف على خلفية جنائية عبر الأنفاق. فقد حدث أن تسلل أفراد من عائلات على جانبي الحدود عبر الأنفاق للقيام بعمليات قتل بغرض الثأر العائلي، علاوة على أن أفراد بعض العائلات في سيناء قد قاموا بخطف أشخاص من غزة على خلفية خلافات مالية أثناء وجودهم في سيناء، وهذا ما حدا ببعض عائلاتهم للتسلل عبر الأنفاق والقيام بمحاولات لفك سراحهم، وهذه الحوادث تعتبر غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين المنطقتين.

ومع ذلك، فإن أكثر أوجه الأنفاق بؤسا هو وفاة أكثر من 250 شابا أثناء عملهم فيها، إما جراء خلل فني، أو بسبب الانهيارات الرملية، وجراء عمليات القصف التي قامت بها إسرائيل على مدى الأعوام الماضية.

لقد حدا تدهور الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة، بشكل كبير، بكثير من الشباب الفلسطيني في القطاع للبحث عن فرص عمل، بغض النظر عن طابعها، والنتيجة أن هذا الشباب قبل مضطرا العمل في الأنفاق، رغم ظروف العمل المأساوية.

من الواضح أن بقاء الأنفاق مرتبط بشكل أساسي ببقاء الحصار على قطاع غزة، وكلما تقلصت مظاهر الحصار، تقلصت الحاجة لبقاء الأنفاق. ومن المؤكد أن مصير الأنفاق يتوقف على مدى التزام إسرائيل تطبيق تفاهمات التهدئة التي توصلت إليها مع حركة حماس في أعقاب عملية «عمود السحاب»، برعاية مصرية. وهناك مؤشرات على أن إسرائيل معنية بالتخفيف من مظاهر الحصار، حيث إن هناك اتجاها داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو إلى محاولة تجريب استراتيجية الجزرة، وعدم الاكتفاء باستراتيجية العصا، على اعتبار أن الحلول العسكرية فشلت في تحقيق عنصر الردع في مواجهة المقاومة في قطاع غزة. من هنا، فإن هناك مؤشرات واضحة على توجه إسرائيل لتخفيف مظاهر الحصار بشكل جذري، الذي تمثل بشكل واضح في السماح بدخول مواد البناء عبر المعابر التجارية التي تسيطر عليها إسرائيل، وهذا يعني أنه أن الحاجة للأنفاق في المستقبل قد تتقلص إلى حد كبير، إذا حافظت إسرائيل على هذا التوجه.

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,192,152

عدد الزوار: 6,982,356

المتواجدون الآن: 64