ملف:الأكراد: مستقبل مقسّم؟..أفكار سريعة: ماريا فانتابيه حول أكراد سورية

تاريخ الإضافة الخميس 26 أيار 2016 - 6:59 ص    عدد الزيارات 666    التعليقات 0

        

 

الأكراد: مستقبل مقسّم؟
يوست هيلترمان,   |   23 مايو 2016
An English version of this article was published by The New York Review of Books
الإقليمان الكرديان، في سورية والعراق مرتبطان بخيط رفيع هش هو عبارة عن طريق سريع من مسارين يعبر معسكرات مليئة باللاجئين من الحروب التي تلتهم هذه الأراضي. الطريق يقطعه نهر دجلة، الذي يشكل الحدود الدولية التي تفصل ليس سورية والعراق وحسب، بل تفصل الأكراد عن الأكراد أيضاً. كان هذا هو الحد الذي مرّ على رسمه مئة عام هذا الأسبوع من خلال اتفاقية سايكس – بيكو بين بريطانيا وفرنسا، والتي كانت الأولى في سلسلة من المفاوضات التي استهدفت تقسيم الأراضي العثمانية السابقة في بلاد الشام بين قوتين أوروبيتين. وفي حين أعلن تنظيم الدولة الإسلامية عداءه للخريطة الأنغلو-فرنسية بوضوح تام، يمكن المجادلة بأن الأكراد هم الذين كانوا الأكثر تأثراً بنظام الدول الحديثة التي نجمت عنها.
لقد اتضح لي مدى الانقسام الذي لا يزال يعانيه أكثر من 30 مليون كردي هذا الربيع، عندما عبرت الحدود من العراق إلى سورية. العبور بحد ذاته لم يكن صعباً: على الجانب العراقي، تستشير موظفة الهجرة التابعة لحكومة إقليم كردستان في أربيل مشرفيها، وتملأ استمارة، وتعطي الضوء الأخضر. الإجراء بمجمله يستغرق أقل من 15 دقيقة. ثم ينقلك قارب صغير إلى سورية، حيث يسجل موظف في الإدارة الذاتية حديثة التشكل في الإقليم الكردي السوري معلوماتك، ويعطيك قطعة ورق مختومة تفيد بحقك بالدخول. من ثم تصبح حراً في التوجه غرباً إلى القامشلي، أول مدينة كردية سورية رئيسية. لا يستطيع المرء رؤية أي دليل على أي من جانبي الحدود على ممارسة الحكومتين صاحبتي السيادة في بغداد أو دمشق لسلطاتهما هنا.
صحيح أن الإجراءات سهلة، إلاّ أن السياسة معقدة. قد يكون الأكراد تخلّصوا من الحكم المركزي في العراق وسورية لكن الحدود لا تزال موجودة: رغم وجود الأكراد أو، ربما بدقة أكبر، بسببهم. لقد تحدث الأكراد منذ زمن طويل عن إعادة توحيد شعبهم في كردستان كبرى، إلاّ أنهم مقسّمون اليوم ليس بين سورية والعراق وحسب، بل أيضاً في تركيا وإيران، اللتان تضمان أعداداً كبيرة منهم. لقد اكتشف السكان الأكراد في هذه البلدان بمرور الوقت أن ما يفصلهم قد يكون أكثر أهمية مما يجمعهم: اختلافات في اللهجة، والانتماء القبلي، والقيادة، والأيديولوجيا، والتجربة التاريخية. كما أن الأحزاب الكردية على جانبي الحدود بين سورية والعراق تؤكد هذه الاختلافات كل يوم عبر إجراءات بيروقراطية شديدة الحساسية. الأكثر من ذلك، يبدو أن الأحزاب الكردية قد تمثلت أساليب الدول التي تزدريها: في سورية، تجد أن قيادات وأعضاء الأحزاب هم حصراً من الأكراد السوريين؛ وفي العراق، من الأكراد العراقيين، وفي إيران، من الأكراد الإيرانيين. وحدها الحركة الكردية في تركيا، التي لها طموحات للشعب الكردي بأسره، تضم أكراداً من الدول المجاورة، رغم أن القيادة العليا من تركيا (وبعض أفرادها لا يتحدث سوى اللغة التركية).
كل هذا إضافة إلى الانقسامات السياسية العميقة الموجودة بين السكان الأكراد في كل من هذه البلدان. في العراق، على سبيل المثال، طورت القيادة الكردية علاقات قوية مع تركيا، التي أصبحت مصدراً رئيسياً للاستثمار والتجارة؛ بينما في سورية، فإن الحزب الكردي المهيمن، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD، هو العدو الأبرز للحكومة التركية من خلال علاقاته الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني PKK، الحركة الكردية المسلّحة في تركيا التي تقاتل حالياً ضد الحكومة التركية. وفي كلا الإقليمين الكرديين، تواجه الأحزاب المهيمنة معارضة قوية من عدد من الفصائل الأخرى.
وهنا المأزق الذي يجد الأكراد أنفسهم فيه عندما يطالبون بالاستقلال: مطالب من هي؟ وكيف يمكن تحقيقها؟ ولأية مناطق، وتحت سلطة من؟ وحيث تبقى هذه الأسئلة دون جواب، فإن الحدود القديمة تستمر موجودة بعناد، وعلى يد الأكراد أنفسهم.
بالعديد من الأشكال، يبدو أن أكراد سورية اليوم يعيشون مرة أخرى ما عاشه نظراؤهم العراقيون عند نهاية حرب الخليج عام 1991: نفس الخراب الاقتصادي؛ نفس المزيج من السيطرة العسكرية والأمن اللذان توفرهما الأحزاب الكردية المعارضة القادرة على المحافظة على القانون والنظام لكن التي لا تتمتع سوى بدعم محلي ضعيف؛ ونفس الانفراج العميق النابع من أن نظاماً مكروهاً لم يعد يتحكم بشؤونهم؛ وفي كلتا الحالتين، قدر من الدعم الأمريكي غير المتوقع؛ ونفس تصاعد الآمال الآن بأنهم أخيراً يحققون قدراً من الحكم الذاتي؛ ونفس الخوف المقيم من أن حكومة مركزية قمعية – سواء الحكومة الحالية في دمشق أو تجسيداً مستقبلياً لها – ستعود لفرض إرادتها عليهم.
لكن بالنظر عبر نهر دجلة، فإن أكراد سورية ينظرون إلى تجربة إخوانهم العراقيين التي أصبح عمرها 25 عاماً في الحكم الذاتي على أنها تشكل نجاحاً جزئياً. فرصة أكراد العراق ظهرت بالصدفة التي ترتبت على غزو صدام حسين للكويت وهزيمته اللاحقة هناك والتي أحدثت فراغاً سياسياً، إلاّ أن النظام استعاد بعض قوته، وقمع تمردهم بوحشية. ثم أنقذتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون وأنشأوا لهم ملاذاً آمناً. عندما تحرروا من النظام، حكم الأكراد جيبهم شبه المستقل مدة 12 عاماً. بعد غزو عام 2003، عوّضت واشنطن عليهم مقابل دعمهم وولائهم بضمان مكان لهم في بغداد ومساعدتهم على تعزيز حكمهم الذاتي. التنقيب عن النفط والغاز والتجارة مع تركيا وإيران منح اقتصاد الإقليم الكردي دعماً كبيراً. بات القادة الأكراد ينظرون إلى المشاكل الدائرة إلى جنوبهم ويصفون أنفسهم بـ "العراق الآخر."
لكن وسط هذا التقدم الملحوظ، كان هناك عقبات مستمرة. بين عامي 1994 و1998، انخرط الحزبان الكرديان الرئيسيان، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طلباني، في حرب أهلية فتح فيها برزاني أبواب أربيل، عاصمة الإقليم، لقوات صدام لإلحاق الهزيمة بطلباني. تم وضع حد للصراع بوساطة أمريكية عام 1998، ووافق الطرفان على تشكيل حكومة وحدة وطنية عام 2005. أدى هذا إلى الاستقرار والرخاء، لكنه سمح أيضاً للعائلتين الحاكمتين بتقاسم إيرادات النفط فيما بينهما. تحقق النمو الاقتصادي لكن مع استشراء الفساد، الذي أدى، عندما انهارت أسعار النفط قبل عام من الآن، إلى وقوع الحزبين في أزمة عميقة من الشرعية. بدلاً من الرخاء، واجه الأكراد فجأة تخفيضات حادة في رواتب القطاع العام، بينما تم قمع احتجاجاتهم أو إجهاضها من خلال التخويف بقوات أمن حكومة إقليم كردستان.
في هذه الأثناء تمسك برزاني بالسلطة بوصفه رئيساً للإقليم، رغم أن مدة ولايته في المنصب انتهت (مرتين) – ورغم إخفاقه بإجراء أية إصلاحات. وفي الوقت نفسه، فإن احتمال تحقق استقلال حقيقي لكردستان العراق يبدو بعيداً بشكل مؤلم. قد يفسر هذا تجدد دعوة برزاني إلى إجراء استفتاء على الاستقلال: في مناورة لتعزيز شعبيته المتراجعة وليس كخطوة ملموسة نحو تحقيق الحلم الكردي.
بالنسبة لأكراد سورية، فإن دروس كردستان العراق بعيدة في كل الأحوال عن الاهتمامات المباشرة للحرب الدائرة حالياً. على عكس نظرائهم في العراق، فإن السكان الأكراد في سورية منفصلون عن بعضهم بعضاً في ثلاثة كانتونات في منطقتين غير متصلتين في شمال البلاد، ومازالوا يواجهون تهديداً مستمراً من قوات تنظيم الدولة الإسلامية في الجوار. وأيضاً على عكس أكراد العراق، فإنهم يتلقون مساعدة عبر تحالفهم مع حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل في تركيا، إلاّ أن هذا شكّل تحديات خاصة به أيضاً. لقد أعادت الحرب الأهلية في سورية إحياء حزب العمال الكردستاني، وسمحت له بتحقيق سيطرة فعلية على مناطق كردية سورية من خلال جناحه السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD، ما سمح له بتوسيع المناطق الواقعة تحت سيطرته. إلاّ أن انهيار محادثات السلام بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني الصيف الماضي سرّع من نشوب صراع عنيف جديد في تركيا، ما دفع الحكومة التركية إلى ممارسة ضغوط أكبر على المناطق الكردية السورية. (منذ انهيار محادثات السلام، اتهمت تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD بإرسال الأسلحة عبر الحدود لدعم تمرد حزب العمال الكردستاني.) اليوم تتسبب الحرب بين تركيا وحزب العمال الكردستاني بنزوح أعداد كبيرة في جنوب تركيا دون ظهور أية علامات على نهايتها. بدت مفارقة كبيرة أن يقف المرء بأمان في القامشلي في سورية التي هي في حالة حرب، للاستماع إلى أصوات البنادق عبر الحدود في تركيا.
ما يزيد من تعقيد الأمور أنه في حين أن القيادتين الكرديتين في العراق وسورية عارضتا بشكل قاطع إقامة علاقات مع تركيا، فإن كليهما متحالفتان الآن مع الولايات المتحدة في صراع مشترك ضد تنظيم الدولة الإسلامية – وهو صراع أثبت الإقليمان الكرديان فعاليتهما فيه. وضعت هذه الحالة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري أمام خيار استراتيجي صعب: هل يسعى لتكرار النموذج الكردي العراقي المتمثل في استخدام القوة الأمريكية كعامل مساهم في تحقيق الطموحات الكردية؟ إذا فعل ذلك، فإنه يعرف أن واشنطن من المرجح أن تحدّ من هذه الطموحات، وأن توفر درجة من الحكم الذاتي الكردي داخل دولة سورية تأمل واشنطن بإعادة بنائها من خلال عملية سلام ترعاها الولايات المتحدة وروسيا. أم هل يستغل أكراد سورية الفوضى التي تعاني منها البلاد لتوسيع المناطق الخاضعة لسيطرتهم وفي الوقت نفسه تصعيد الحرب في تركيا سعياً لتحقيق الهدف الكردي النهائي المتمثل في جمع الأطراف الكردية الأربعة وإعادة تشكيلها في "كردستان كبرى" واحدة؟
الاتحاد الديمقراطي في شمال سورية خلال زيارة قمت بها في آذار/مارس، ساد صمت قصير غير مريح. ثم ابتسم ابتسامة عريضة ورغم أن الدوافع مختلفة جداً، فإن التطلعات الجغرافية بعيدة المدى للأكراد شبيهة بتطلعات الجهاديين الذين يقاتلونهم: كلاهما يبدوان عازمين على محو الحدود القديمة للنظام ما بعد العثماني. عندما طرحت هذه المقارنة الجريئة إلى حد ما في حديثي مع أحد مسؤولي حزب قال: "داعش رمى القنبلة الأولى. نحن سنحصد النتائج."
القادة الأكراد السوريون صريحون فيما يتعلق باستعدادهم لاستخدام الصراع والفوضى لمصلحتهم. القوة المقاتلة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وحدات حماية الشعب، وبعد أن شعرت بقيمتها، وبالتالي بنفوذها، بوصفها حليفاً لا غنى عنه في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فإنها لا تتوانى عن استخدام القوى الكبرى في المنطقة – الولايات المتحدة، وروسيا، وتركيا، ونظام بشار الأسد – ضد بعضها بعضاً، بصرف النظر عن الكلفة. إذا استمرت واشنطن بالتعامل مع وحدات حماية الشعب بوصفها لا أكثر من شركة أمن خاصة، كقوة مستأجرة تساعدها في إزاحة تنظيم الدولة الإسلامية عن ضفاف الفرات، وترفض مساعدة وحدات حماية الشعب في طموحاتها الإقليمية بتوحيد الكانتونات الكردية الثلاثة (التي يتناثر فيها أيضاً سكان عرب، وتركمان، ومسيحيون)، فإن وحدات حماية الشعب تعتقد أن بوسعها استخدام تحالفها بحكم الأمر الواقع مع روسيا للحصول على المزيد من الدعم من الولايات المتحدة.
يقول القادة الأكراد إن المسؤولين الروس أخبروهم أنه إذا حاولت وحدات حماية الشعب توسيع سيطرتها على مناطق في شمال سورية إلى أن تصل إلى شواطئ المتوسط (حيث، بالمناسبة، هناك عدد ضئيل جداً من الأكراد، هذا إذا كان هناك أي أكراد على الإطلاق)، فإن روسيا لن تمنع ذلك. قد يساعد هذا على تفسير إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عن إقامة إقليم فيدرالي (تحت سيطرته، وبحدود لم تحدد بعد) عشية السنة الكردية الجديدة في آذار/مارس، وهو إعلان أشعل وسائط التواصل الاجتماعي وشحن الرأي العام في سائر أنحاء المناطق الكردية المقسمة. وقد يكون سبب آخر لتوقيت الإعلان رغبة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بلفت الانتباه لقضيته بعد أن تم إقصاؤه عن محادثات جنيف حول سورية. بالطبع، فإن الإعلان لا ينشئ منطقة موحدة – حيث إن توحيد المناطق الكردية سيتطلب جهداً عسكرياً كبيراً ضد تنظيم الدولة الإسلامية وتركيا على حد سواء، إضافة إلى مجموعات المعارضة المسلحة المدعومة من الولايات المتحدة شمال حلب. إلاّ أن وحدات حماية الشعب هي قوة عسكرية منضبطة ومتميزة، وإذا لم يتم وقفها من قبل قوة رئيسية، فإنها يمكن أن تقطع شوطاً بعيداً نحو تحقيق هذا الهدف.
ما يجعل من توحيد مثل هذه المناطق خطيراً على نحو خاص هو احتمال جر الجيش التركي إلى الصراع. لقد سبق لتركيا أن حذرت من أن أي تحرك لوصل كانتون عفرين الكردي شمال حلب بالمناطق الكردية الأخرى إلى الشرق على طول الحدود التركية لن يكون مقبولاً. ولا يعود السبب فقط إلى أنها لا تستطيع أن تقبل بوجود منطقة كبيرة من الحدود السورية مع تركيا تحت سيطرة أكراد متحالفين مع حزب العمال الكردستاني. إنها لا تقبل ذلك أيضاً لأن مثل هذا التحرك سيقطع خط الإمداد المتبقي الوحيد لمجموعات المعارضة المسلحة في حلب التي تدعمها تركيا. يمكن لتحرك مضاد للجيش التركي ضد وحدات حماية الشعب، إذا لم يتم القيام به بالوكالة، أن يؤدي إلى ضربات جوية روسية، ومن تلك النقطة فصاعداً، وبالنظر إلى احتمال استحضار تركيا لعضويتها في حلف شمال الأطلسي، فإن المزيد من التدخل الدولي سيقوّض الجهود الرامية إلى وضع حد للحرب السورية.
لا ينبغي أن تصل الأمور بالضرورة إلى هذا المآل. وإذا وصلت، فإن ذلك سيكون لأن إدارة أوباما، القوة الوحيدة التي تتمتع بالنفوذ لدى تركيا ووحدات حماية الشعب، مشوّشة داخلياً إلى درجة أنها لا تستطيع تحقيق أي من هدفيها الاستراتيجيين: انتقال سياسي إلى حقبة ما بعد الأسد وإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية. إن السعي لتحقيق هذين الهدفين هو الذي دفع بعض الأطراف في الإدارة الأمريكية إلى الضغط لمنح دعم أكبر للمعارضة السورية المدعومة من تركيا في حلب وعلى طول كوريدور يصل إلى الحدود التركية. مجموعات أخرى داخل الإدارة تتبنى تعزيز قوة وحدات حماية الشعب بوصفها القوة الحليفة للولايات المتحدة الأكثر فعالية في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والتي ترى فيها أولوية قصوى للولايات المتحدة. لا يمكن اتباع المقاربتين في الوقت نفسه وضمان النجاح لهما.
تتمثل المقاربة الحكيمة لتحقيق التقدم في اشتراط إدارة أوباما لدعمها لوحدات حماية الشعب استعداد الوحدات لتخفيف طموحاتها في السيطرة على الأراضي؛ وأن تقدم مقابل ذلك وعداً بالدعم الأمريكي للحقوق الكردية في سورية خلال عملية الانتقال السياسي وما بعدها. وفي الوقت نفسه، ستكون الإدارة بحاجة إلى تحفيز أردوغان للعودة إلى محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني مقابل الدعم الأمريكي للمصالح التركية في شمال سورية، بما في ذلك منع إقامة إقليم موحد يديره حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب ووضع حد لتقديم وحدات حماية الشعب للأسلحة والمساعدات الأخرى لحزب العمال الكردستاني في جنوب تركيا.
مثل هذه الصفقة، التي تشكل هدفاً بعيد المنال طبقاً لأية حسابات، تزيد من تعقيدها قضيتان. القضية الأولى تتمثل في نزعة أردوغان السلطوية المتزايدة، بما في ذلك قيامه في الشهور الأخيرة بتخويف واعتقال الصحافيين وفرض الرقابة عليهم وعلى منتقديه الآخرين، واستخدام الحرب ضد حزب العمال الكردستاني لمحاولة الدفع بإصلاحات دستورية في تركيا لإقامة نظام رئاسي. قد يكون من الصعب إقناع رأس الدولة التركية بالتراجع عن جهوده لتقويض المؤسسات الديمقراطية في بلاده، ما لم ينشأ ضغط مقابل ضروري إما نتيجة إخفاق عسكري في الجنوب الشرقي أو انتفاضة شعبية ضد حكمه. القضية الأخرى هي التصوّر التركي بأن عودة ظهور حزب العمال الكردستاني تشكل جزءاً من تنافس إقليمي أكبر يشمل إيران. طبقاً لهذه الرؤية، فإن إيران حرّكت القومية الكردية الوحدوية في تركيا، والعراق، وسورية (لكن ليس في إيران) ضد أولئك الأكراد المدعومين من قبل تركيا والمستعدين للعمل داخل أنظمة الدول الموجودة. المنطقة التي تكشَّف فيها هذا الصراع بأكثر أشكاله دراماتيكية هي شمال العراق.
"إننا في لعبة شطرنج نحن بيادق فيها، ولسنا لاعبين،" لاحظ شاهو سعيد، مدرّس الفلسفة في جامعة السليمانية، شمال العراق. في الماضي، كانت البلدان الأربعة التي يعيش فيها الأكراد – تركيا، وإيران، والعراق وسورية – تستخدم الانقسامات الجغرافية والأيديولوجية بين الأكراد للحد من تطلعاتهم في أراضيهم نفسها. الآن، مع انشغال دمشق بتهديدات أكبر وكون حكومة بغداد محيّدة فعلياً، فقد ارتاح الأكراد من عدوّين، وأصبح لديهم المزيد من الوقت والمزيد من الأراضي لوضع أسس دولة مستقبلية موحّدة. إلاّ أن الدولتين الأخريين اللتين يعيش فيهما الأكراد، تركيا وإيران، لا تزالان قويتان، ورغم نزاعهما حول من ينبغي أن يحكم سورية، فإن كليهما تسعيان لمنع ظهور دولة كردية مستقلة.
الطريقة التركية التي أثبتت فعاليتها في فرض نفوذها على أكراد العراق هي عبر الاقتصاد: إنها تستخدم ثقلها كقوة اقتصادية لتوفير التجارة، والاستثمار، وعقود الأعمال لشمال العراق. ومقابل إبداء أكراد العراق للمرونة، يحصلون على قناة لتصدير نفطهم عبر تركيا، وهو ما بات يشكل المصدر الرئيسي لإيراداتهم. لقد نجح هذا الترتيب، القائم منذ عام 2008، بشكل جيد بالنسبة لكلا الطرفين وتجاوز الاضطرابات الإقليمية، على الأقل حتى الآن. لكن لا تركيا ولا القيادة الكردية في العراق لديها الكثير مما تقدمه لأكراد سورية، على الأقل طالما ظل حزب الاتحاد الديمقراطي هو المسيطر وطالما ظل تحت جناح حزب العمال الكردستاني.
أما طريقة إيران فهي فرِّق تسد: دعم كردي ضد كردي آخر، ودعم بغداد ضد الأكراد. خط الانقسام الرئيسي في شمال العراق هو بين الأكراد الموالين لبرزاني قرب الحدود التركية، الذين يتحدثون اللهجة الكرمانجية، والأكراد الموالين لطلباني الذين يتحدثون اللهجة السورانية في المناطق القريبة من إيران. رغم الشراكة الاستراتيجية بين الحزبين ووجود عدو مشترك هو تنظيم الدولة الإسلامية، فإن إيران تمكنت ببراعة من استغلال التنافس التاريخي بينهما، وحاولت جمع الأكراد الذين تفضلهم – حزب العمال الكردستاني في تركيا، وحزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب في سورية، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة طلباني في العراق – في تحالف موسع ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة برزاني. حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، من جهته، ممزق بين ميوله الأيديولوجية ومصالحه الاقتصادية: "قلبه مع حزب العمال الكردستاني أما جيبه فمع الحزب الديمقراطي الكردستاني"، على حد تعبير شاهو سعيد.
باختصار، فإن المشهد السياسي الكردي ليس أقل انقساماً من المنطقة المحيطة به. قد تكون كردستان العراق قد أنهت اعتمادها الاقتصادي على بغداد، إلاّ أن أية فكرة تحملها في الانفصال عن العراق لا يمكن أن تتعدى شبه استقلال، على حد تعبير أحد قادة المعارضة، طالما ظل الإقليم، يسبح على بحر من الفساد، ويعاني من البؤس الاقتصادي، ويفتقر إلى الموارد الاقتصادية، والقوة العسكرية، والاعتراف الدولي الذي سيحتاجه. لو مضى برزاني في محاولته لتحقيق الدولة رسمياً، فإن الأكراد، الذين سيشكلون إضافة متأخرة لعائلة الدول الأمم، سيعيشون في دولة فاشلة مستقلة جديدة على نمط جنوب السودان. الكيان الجديد، الذي سيكون مديناً بشدة لشركات النفط، سيُخنق اقتصادياً من قبل تركيا وسيمزَّق بالصراعات الداخلية التي تحركها إيران.
نظراً لحرمانهم من دولة على مدى المئة عام الماضية، وحيث يواجهون الآن انهيار الدول القديمة لحقبة ما بعد العثمانية في بغداد ودمشق، فإن العديد من الأكراد يمكن أن يحلموا بتدمير الحدود الحديثة للشرق الأوسط من أجل إقامة دولتهم أخيراً. لكن سيترتب عليهم أولاً محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يريد ليس فقط محو الحدود، بل إسقاط الشرق الأوسط برمّته كما نعرفه. كما أن الأكراد لم يكونوا فعالين جداً في تغيير أي من الحدود التي تعيقهم. ما سيحدث لاحقاً قد لا تحدده أحلام الأكراد ومخططاتهم بقدر ما يحدده ما يبقى من سورية بعد أن يغادر داعش، والحمايات التي قد يحصل عليها الأكراد من ذلك. المفارقة هي أنهم وكي يضمنوا حكماً ذاتياً – ويضمنوا بقاءهم – فإن الأكراد سيكونون في النهاية بحاجة سايكس بيكو بنفس القدر الذي كان أسيادهم السابقين بحاجتها.
 
أفكار سريعة: ماريا فانتابيه حول أكراد سورية
ماريا فانتابييه , جدلية   |   19 أبريل 2016
[يلعب أكراد سورية دوراً يزداد بروزاً في الصراع الذي تشهده البلاد؛ وفي السنوات الأخيرة بسطت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي PYD سيطرتها الفعلية على معظم الأراضي الواقعة في شمال سورية التي يشكل الأكراد جزءاً كبيراً من سكانها. في آذار/مارس 2016، وبعد فترة قصيرة من استبعاد الحزب الديمقراطي الكردي من المشاركة في المحادثات الدبلوماسية التي تستضيفها الأمم المتحدة في جنيف، أعلن الحزب الكردي السوري أن المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية التي كان الحزب قد أسسها ستشكل من ذلك الوقت فصاعداً إقليماً فيدرالياً داخل سورية. في هذه الأثناء، تعهدت تركيا، التي ترى في حزب الاتحاد الديمقراطي امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي تخوض صراعاً معه منذ ثمانينيات القرن العشرين، بمنع المزيد من توسيع قوة حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سورية. للتوصل إلى فهم أفضل للسياسات الكردية السورية وعلاقة الأكراد بالصراع الأوسع في سورية، وكجزء من سلسلة من الأفكار السريعة مع محللي مجموعة الأزمات لشؤون الشرق الأوسط، التقت جدلية بماريا فانتابييه، كبيرة المحللين لدى المنظمة، والتي قادت الأبحاث حول القضية الكردية منذ بداية الصراع وقامت بزيارة مطوّلة مؤخراً للجيوب الكردية في سورية].
جدلية: قد يكون أكراد سورية، وحزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب بشكل خاص، الطرف الوحيد الذي يخرج أقوى مما كان من الصراع السوري. كيف تفسرين هذا؟
ماريا فانتابييه: إن توسع سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب على الأراضي هي نتيجة عرضية للصراع أكثر منها نتيجة مبادرة متعمدة. لكن ما من شك في أن المنظمة سعت للاستفادة من الفرص حين ظهورها وقد تمكنت من فعل ذلك بفعالية.
عندما انسحبت قوات النظام من أجزاء من شمال وشمال شرق سورية عام 2012 من أجل التركيز على الدفاع عن المناطق المحورية بالنسبة لها، تمكّن حزب الاتحاد الديمقراطي بسرعة من إرسال مجموعات من المقاتلين الاحتياط الذين يتمتعون بخبرة كبيرة. كان معظمهم قد تلقى تدريباً من حزب العمال الكردستاني PKK الذي يعمل في تركيا ويمتلك خبرات تقنية وموارد مالية لإنشاء إدارة في المناطق التي يقطنها الأكراد في سورية. بالنسبة للنظام وداعميه، فإن السماح بدخول مقاتلين مدربين من قبل حزب العمال الكردستاني كان تحركاً تكتيكياً، كورقة يلعبها ضد تركيا وفصائل المعارضة السورية. لاحقاً، كانت رغبة الولايات المتحدة بالتعاون مع شركاء موثوقين على الأرض لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية يعني تلقّي وحدات حماية الشعب لدعم إضافي، ما سمح لها بالتقدم إلى ما وراء المناطق التي يقطنها الأكراد. ومع إضعاف مجموعات المعارضة السورية المسلحة بسبب الضربات الجوية السورية وإضعاف تنظيم الدولة الإسلامية بسبب الضربات الجوية للولايات المتحدة، تمكنت وحدات حماية الشعب من التوسع في مناطق متصلة على الحدود السورية – التركية.
غير أن قوة حزب الاتحاد الديمقراطي تبقى هشة، لأنه يبقى معتمداً على الخصومات الإقليمية والمصالح الدولية. سيتساهل النظام حيال الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي فقط إلى الحد الذي يمنع فيه المزيد من التوسع لقوات المعارضة في شمال سورية. وعلى نحو مماثل، فإن الروس والإيرانيين يدعمونه لأنه يردع تركيا، والولايات المتحدة تدعمه إلى الحد الذي يمكنه من الاستيلاء على الأراضي من تنظيم الدولة الإسلامية. ولهذا السبب فإن التحدي بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي يتمثل في تعزيز الزخم العسكري الراهن وتحويله إلى واقع سياسي دائم، وتحويل المكاسب قصيرة الأمد التي يحققها على الأرض بدعم من شركاء انتهازيين إلى تحالفات قوية ومستقرة. بعبارة أخرى، فإنه بحاجة إلى تهيئة الظروف التي ستسمح له بالازدهار خلال عملية انتقال سياسي بدلاً من الازدهار وسط الصراع.
جدلية: ما هي أهداف حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب في سورية؟
ماريا فانتابييه: لقد صاغ حزب الاتحاد الديمقراطي مشروعه السياسي بشكل يكتنفه الغموض، مما سمح له بتغيير أهدافه بمرور الوقت. لكنه أعطى مصداقية خطيرة – في أوساط فصائل المعارضة على وجه الخصوص – للتصور الشائع في سورية بوجود طموحات كردية بالانفصال عن سورية. إلاّ أن الهدف المحوري لحزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب يتعلق أكثر بالمصالح الفصائلية للحزب مما يتعلق بالتطلعات الكردية بتقرير المصير. إنه يسعى لترسيخ وجوده السياسي والعسكري في البلاد، وبذلك يمنح نفوذاً لحزب العمال الكردستاني في سائر أنحاء تركيا، وسورية، والعراق وإيران.
يعلن حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب مشروعاً لـ "الحكم الذاتي الديمقراطي" الذي يحدد اللامركزية، والمساواة بين الجنسين والبيئة بوصفها مبادئ رئيسية في الحكم، لكنه يبقى غامضاً حيال تفاصيل رئيسية لهذه اللامركزية. على سبيل المثال، في عام 2013، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي إدارة محلية تتكون من ثلاثة جيوب كردية غير متصلة في سورية أو "روجافا" ("الغرب" باللغة الكردية)، وعارض بقوة تأسيس إقليم فيدرالي كردي شبيه بإقليم كردستان العراق المجاور. مع توسع سيطرة قوات حماية الشعب في الشمال، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي هذا العام "إقليم روجافا الفيدرالي الديمقراطي"، ودعا إلى نظام فيدرالي. من غير الواضح ما إذا كانت الحركة تسعى إلى اللامركزية أو الفيدرالية لسورية بأكملها، أو بدلاً من ذلك لحكم ذاتي للجيوب الثلاثة التي يقطنها الأكراد في البلاد.
إلاّ أن الواضح هو أن مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي تغير مع محاولاته لترجمة سيطرته على الأراضي إلى شرعية سياسية. في حين أن حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب سيطرت على الأراضي واحتفظت بها بنجاح، فإنها لم تحصل على مقعد على طاولة المفاوضات السياسية حول سورية، بشكل أساسي بسبب صراع تركيا مع المنظمة الأم لحزب الاتحاد الديمقراطي والمتمثلة في حزب العمال الكردستاني. لقد كان من البارز عدم دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي للمشاركة في تجمع قوى المعارضة السورية في الرياض في كانون الأول/ديسمبر 2015، ولا في محادثات السلام التي تستضيفها الأمم المتحدة في جنيف، بشكل أساسي بسبب الاعتراضات التركية. انعدام التوازن هذا بين النجاح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب والتهميش السياسي شجع الحركة على استثمار جميع مواردها بهدف تحقيق التوسع العسكري كوسيلة لفرض نفسها على الحلبة السياسية.
جدلية: هل يُدفع حزب الاتحاد الديمقراطي بشكل أساسي بالتطورات المحلية أو بأجندة كردية إقليمية يصوغها حزب العمال الكردستاني في تركيا؟
ماريا فانتابييه: إن علاقة حزب الاتحاد الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني محورية في نجاحه الراهن في سورية. لقد وفر مقر حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في العراق لحزب الاتحاد الديمقراطي شراكة إقليمية، ووفر له التمويل والطواقم العسكرية التي سمحت له بتأسيس الإدارة الذاتية في سورية.
بصرف النظر عن قوة العلاقات التنظيمية بين حزب العمال الكردستاني والفروع السورية، ما من شك في أن أعضاء رفيعي المستوى في الفرع العسكري للجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، أي وحدات حماية الشعب، لديهم نفس الخبرات التكوينية التي يمتلكها حزب العمال الكردستاني. ورغم أن العديد من كوادر وحدات حماية الشعب هذه تتحدر من سورية، فإنها اختلطت اجتماعياً في قنديل حيث قضت سنوات شبابها في تلقي التدريب العسكري والتأهيل الأيديولوجي على فكر مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان. إنهم جزء من سلسلة القيادة التي تتخذ من قنديل مقراً لها والتي لها أهداف عابرة للأوطان تمتد خارج سورية، إلى تركيا، وإيران والعراق.
تدفق المقاتلين من قنديل إلى سورية مهم لأن الكوادر المدربة في قنديل هم صناع القرار الحقيقيين في مؤسسات الإدارة الذاتية. رغم أن هذه المؤسسات يرأسها رسمياً مدنيون، فإنها لا تزال بحاجة لحماية أمنية كي تتمكن من العمل. ومنذ تأسيسها، كان للكوادر العسكرية الكلمة الأخيرة في تعيين الموظفين في المؤسسات السياسية والقضائية المحلية، وفي المسائل المتعلقة بتنفيذ القانون، وتوزيع الموارد. لقد جعلت حقيقة أن الإدارة الكردية تأسست وسط الصراع من الصعوبة بمكان على المدنيين انتزاع السلطة من العسكريين. وكلما أعطى حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب الأولوية للتوسع في الاستيلاء على الأراضي، كلما استثمر في تسليم السلطة المؤسساتية للمدنيين.
لهيمنة الكوادر العسكرية المدربة في قنديل مضامين تتجاوز سورية. لقد أوجدت اعتماداً متبادلاً خطيراً بين تركيا والفضاء الكردي في سورية. إن مسعاهم للسيطرة على المزيد من الأراضي سيربط هذه الإدارة بالمحصلة بحزب العمال الكردستاني، وسيربط مستقبلها السياسي بحصيلة الصراع بين تركيا والحزب، وفي الوقت نفسه سيغذي هذا الصراع. طالما استمرت وحدات حماية الشعب بالاستيلاء على المزيد من الأراضي، مستفيدة من الخصومات بين تركيا من جهة والنظام السوري وحلفائه من جهة أخرى، فإن هذا سيعزز من الناحية العملية العلاقة مع حزب العمال الكردستاني. وعلى نحو مماثل، فإن إعادة إشعال الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني جعل الحزب معتمداً على أكراد سورية كفضاء لبناء نفوذ دولي وتحالفات إقليمية، وكذلك الحصول على ملاذ آمن لمقاتليه.
جدلية: ما هو موقع أكراد سورية في المحاولات الدبلوماسية لتسوية الصراع السوري؟
ماريا فانتابييه: لقد أُدخلت الأحزاب الكردية الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في الصراع السوري المعقد أصلاً، وأضافت خصوماتها الداخلية الخاصة إلى العقبات الهائلة أصلاً التي تعيق التوصل إلى اتفاق دبلوماسي.
إن التوترات الكردية الداخلية والصراع بين مؤيدي النظام وخصومه تتقاطع وتعزز بعضها بعضاً. لقد أحيا الصراع في سورية العداوة بين قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني على قيادة السياسات التركية. لقد وقف حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني على التوالي مع القوى التي تدعم (إيران) وتعارض (تركيا) النظام السوري، لكسب أوراق يلعبانها ضد بعضهما بعضاً. كما تعتمد إيران وتركيا أيضاً على الأحزاب الكردية للقتال بالوكالة عنهما في أجنداتهما المتعارضة في سورية.
وقد أدى هذا إلى وضع يحتفظ فيه حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب بسيطرة حصرية داخل سورية في حين أن الأحزاب الكردية السورية المرتبطة بالحزب الديمقراطي الكردستاني تحتفظ بتمثيل حصري للأكراد في المفاوضات السياسية. لقد ساعد احتكار حزب الاتحاد الديمقراطي للسلطة في المناطق الكردية في سورية على إعادة إشعال صراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني. إن رفض تركيا لمشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في محادثات جنيف سيزيد من تعقيد أي مفاوضات لتحقيق السلام. إن حل هذا الانقسام الكردي الداخلي لن يعزل القضية الكردية عن الاستقطاب الاقليمي الأوسع وحسب، بل إنه سيسهل أيضاً التوصل إلى حل دبلوماسي للصراع.
جدلية: من إذاً يمثل سكان سورية الأكراد؟
ماريا فانتابييه: من المهم التمييز بين مصالح الأحزاب الكردية ومصالح السكان الأكراد.
رغم أن حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب تسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي، فإنها لا تمثل بالضرورة الأكراد (وغير الأكراد) الذين يعيشون في هذه المناطق. من المؤكد أن حزب الاتحاد الديمقراطي/وحدات حماية الشعب قد وفرت للأكراد فرصاً غير مسبوقة للتعبير عن هويتهم الوطنية في سورية، لكنها هوية تحددها الأجندة الحزبية لحزب الاتحاد الديمقراطي وأيديولوجيته، وهي هوية ليست بالضرورة متناغمة مع مصالح وتطلعات أكراد سورية أنفسهم. إن القوة الأساسية للشباب الأكراد السوريين الذين شاركوا في الحركة الاحتجاجية عام 2011 عملت بشكل مستقل عن أي حزب كردي سوري وغادرت منذ ذلك الحين البلاد إما إلى أوروبا أو إلى كردستان العراق المجاور. الطبقة الوسطى المتعلمة (على سبيل المثال القضاة، والمهندسين، والمدرسين والأطباء) حذرة من المشاركة في مؤسسات الإدارة الذاتية الجديدة التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث ينظرون إليها على أنها انعكاسات لأجندة فصائلية تسيطر عليها الكوادر العسكرية على حساب السكان الأكراد السوريين. وهذا واضح على سبيل المثال في النظام التعليمي؛ فعندما أسس حزب الاتحاد الديمقراطي التعليم الأساسي باللغة الكردية، ردت الحكومة السورية بإغلاق المؤسسات التعليمية التابعة للدولة في معظم المناطق التي يقطنها الأكراد. أدى هذا في النهاية إلى حرمان الأطفال الأكراد السوريين من إمكانية الحصول على شهادات التعليم الأساسي المعترف بها من قبل الدولة السورية.
مثل هذه النواقص في التواصل مع القاعدة الشعبية لا تقتصر على حزب الاتحاد الديمقراطي، وهي تعتري أيضاً الأحزاب الكردية التقليدية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في العراق (والمنظمات السورية المرتبطة بهما). لقد راكمت الأحزاب ما يكفي من القوة العسكرية والموارد الاقتصادية لحشد الدعم مؤقتاً، إلاّ أن هيكليتها، وأيديولوجيتها وتنظيمها لم تعد ذات صلة أو قادرة على قيادة شعبها.
جدلية: حزب الاتحاد الديمقراطي متحالف حالياً مع الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء، ويبدو في بعض الأحيان وكأنه يعمل بتحالف ضمني مع دمشق. كيف تتقاطع أجندته مع أجندات الآخرين، وهل هناك مخاطرة ربما بأنه يقضم أكثر مما يستطيع مضغه؟
ماريا فانتابييه: لحزب الاتحاد الديمقراطي اليوم العديد من الشركاء المؤقتين لكنه يفتقر إلى حلفاء حقيقيين. إنه يعمل بالوكالة لدى القوى الإقليمية والدولية لتحدي خصومه دون أن يواجههم بشكل مباشر، وكحليف لقوى دولية لا تريد عقد شراكات مع بعضها بعضاً. لا الولايات المتحدة ولا روسيا قدمتا ضمانات لحزب الاتحاد الديمقراطي بأنهما سيعتبرانه لاعباً سياسياً شرعياً في مستقبل سورية. إن احتمالات قيام الولايات المتحدة بالدفع في هذا الاتجاه يعيقها صراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني، في حين أن روسيا مقيدة برفض النظام السوري الاعتراف بأي إدارة كردية خارج الدولة السورية أو بالتوازي معها.
لا يستطيع حزب الاتحاد الديمقراطي الاعتماد بشكل منفرد على التوسع في السيطرة على الأراضي. سيكون من الحكمة أن يقوم ببناء تحالفات طويلة الأمد، وأن يركز على تمكين القيادة المدنية للمؤسسات، وتقاسم السلطة مع الأحزاب الكردية أو غير الكردية الأخرى من أجل ترسيخ نفسه داخل المجتمع المحلي. بدلاً من أن يعلن بشكل مفاجئ عن الفيدرالية، كان من الحكمة أن يجعل النظام والمعارضة يلتزمان بالاعتراف بالحقوق الكردية في سورية والتفاوض مع الطرفين على تفاصيل اللامركزية في تلك المناطق التي يقطنها الأكراد. لقد أظهرت خمس سنوات من الصراع في سورية أن النجاح لا يتعلق بمساحات الأراضي التي تسيطر عليها بقدر ما يتعلق بدقة حسابات الاستراتيجية التي تتبناها.
يمكن للسيطرة على الأراضي أن يتحول بسهولة من ميزة إلى عبء. في الواقع، فكلما توسعت وحدات حماية الشعب جغرافياً، وكلما حاولت ترجمة إنجازاتها على الأرض إلى وقائع سياسية بحكم الأمر الواقع، كلما أوجدت بيئة معادية سواء داخل سورية أو في المنطقة بشكل عام. لقد أدى توسع وحدات حماية الشعب وإعلان الفيدرالية في شمال سورية أصلاً إلى شيء من الحساسية، إن لم يكن الغضب، لدى فصائل المعارضة العربية. إن انتشارها في حلب من خلال الدعم الروسي غير المباشر في آذار/مارس 2016، يخاطر بعدم استعداد الولايات المتحدة لإقناع تركيا بمشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في محادثات جنيف. وإذا كان النظام السوري يتساهل حالياً حيال الإدارة الذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، فإنه في المستقبل قد يشاطر تركيا العداء لحزب الاتحاد الديمقراطي.

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,791,810

عدد الزوار: 6,915,199

المتواجدون الآن: 107