يهود العراق ومصر: هجرة أقرب إلى التهجير

تاريخ الإضافة الجمعة 28 آب 2015 - 7:39 ص    عدد الزيارات 826    التعليقات 0

        

 

يهود العراق ومصر: هجرة أقرب إلى التهجير
محمود حدّاد  ... * أستاذ في جامعة البلمند - لبنان
بدأت المسألة اليهودية التي تحولت إلى حركة صهيونية، قضية مرتبطة بأوضاع اليهود في الغرب الأوروبي ولم يكن للمجتمعات الإسلامية والعربية من رابط بها. ولعل فشل المجتمعات الأوروبية في دمجهم كمواطنين في هوياتهم القومية المختلفة، خصوصاً في أوروبا الشرقية واستمرار اضطهادهم حتى القرن التاسع عشر، أظهرا قصور الحضارة الغربية وجعلا فلسفة الأنوار الحداثوية موضع تساؤل وقتها. كما أن قيام الغرب في الوقت نفسه بتأييد الحركة الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود خارج أوروبا، وفي فلسطين تحديداً، كان استسلاماً من الغرب ومن اليهود الغربيين معاً لفكرة التمييز العنصري والديني وتطبيقها العملي خارج أوروبا. لهذا فإن البلدان التي كانت تضطهد اليهود ضمن حدودها كانت أول المؤيدين للحركة الصهيونية والموافقين بحماسة، في ما بعد، على إقامة إسرائيل. أما الاستمرار في دعم الدولة الجديدة فجاء لهذا السبب المذكور لإضافة إلى الدور الإقليمي الذي التزمت به الصهيونية بجعل كيانها يلعب دور «كلب حراسة» المصالح الغربية وعصاها الغليظة في المنطقة.
ومع أن اضطهاد اليهود في أوروبا الشرقية، خصوصاً في روسيا انتهى عملياً بعد الثورة البولشيفية في 1917 وقيام الاتحاد السوفياتي بعد ذلك، فإن هذه المسألة تحولت بعد الحرب العالمية الثانية، إلى إحدى نقاط الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن لا لسبب يتعلق بمعاملة اليهود في روسيا إذ إن نسبة وازنة منهم كانت تحتل مناصب محترمة أو تشغل مهناً عالية. أما السبب الحقيقي فكان للضغط على الاتحاد السوفياتي تحت شعار «حرية الفرد في التنقل والسفر». وكانت مواقف اليهود السوفيات مواقف اقتصادية محضة إذ إنهم –كغيرهم- رأوا فرصاً أكبر للحياة المرفهة من خلال الهجرة إلى الولايات المتحدة على الأعم الغالب. وهذا ما دفع تل أبيب للضغط على واشنطن لإقرار قانون يحظر على يهود الاتحاد السوفياتي الهجرة إلى غير إسرائيل -على الأقل عند مغادرتهم الاتحاد السوفياتي- في ثمانينات القرن الماضي.
أما اليهود الذين كانوا يقيمون خارج أوروبا، خصوصاً يهود البلاد العربية فقد قامت المرحومة الدكتورة خيرية قاسمية بعمل بحثي شبه شامل من خلال كتابها الذي صدر أخيراً بعنوان «يهود البلاد العربية» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية - 2015) وبتمويل من وقفية عبد المحسن القطان للقضية الفلسطينية (مثل هذا التمويل يجب أن يُذكر ليُشكر وليقتدى به، فيا ليت كل متمول عربي يخصص جزءاً من ثروته للعمل الثقافي إذ إن للمجتمع وأفراده القادرين دوراً لا شك به في هذا المجال). والكتاب يُعتبر مسحاً لأوضاع اليهود في المشرق العربي وحوض النيل وبلدان شمال أفريقيا قبل هجرتهم أو تهجيرهم إلى الكيان الصهيوني أو إلى دول أوروبا وأميركا. كما يبحث الكتاب في أوضاع اليهود الشرقيين (بمن فيهم يهود البلاد العربية) داخل إسرائيل، ثم ينعطف لبحث إشكاليات جدلية تتعلق بدعوة يهود البلاد العربية للعودة إلى بلادهم والتعويض عليهم (وهي مفارقة تاريخية مؤلمة حيث إنَّ الكثير من العرب، مسلمين ومسيحيين، لأسباب لا تخفى على القارئ، يحاولون اليوم الهجرة من بلدان عربية عدة). ويحتوي الكتاب على جزء خاص إضافي بقلم د. أنيس مصطفى القاسم عن «اليهود العرب في إسرائيل: نضال من أجل الهوية والعدالة». وكذلك على سبعة ملاحق إحصائية حول توزيع الأقليات اليهودية في المنطقة وقانون الجنسية الإسرائيلية وغير ذلك من المواضيع ذات العلاقة. ولا بد من الإشارة إلى أن الكتاب يبدأ بمقدمة تقع في تسعين صفحة بقلم د. أنور محمود زناتي يلخص فيها مختلف جوانب الكتاب. من هنا، فعلى الرغم من أن هذا العمل يقع في 800 صفحة، فإن ثلثه مخصص للمقدمة وللفصل الخاص الذي ذكرناه وللملاحق. لذلك فإن عملاً بهذه الرؤية الواسعة ركز على المعالجة الأفقية المفيدة لرسم خريطة معلومات وافية ولم يهدف للحفر عميقاً في تحليل سيرورة عملية الهجرة والتهجير اليهودي من بعض البلاد العربية بعينها على سبيل المثال.
و كتاب د. قاسمية، الذي يلامس موضوعاته واحداً بعد الآخر وفق الأقطار التي يغطيها، يقفز فوق بعض الوقائع المهمة، فعند تناول أوضاع اليهود المصريين مثلاً لا يتوقف عند أثر العدوان البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي الثلاثي عام 1956 على هذه الطائفة ولا أثر التأميمات أو قرارات التمصير الأولى على أغنياء اليهود الذين تأثروا بهذا العدوان سلباً. والمعروف أن هذه الشريحة الاجتماعية كانت على علاقة وثيقة بالمصالح الأجنبية، خصوصاً كبار التجار في مصر. وهكذا، فإن هجرة وتهجير يهود مصر حصلت بسبب تردي أوضاعهم الاقتصادية والسياسية في منتصف الخمسينات. أما الطبقات الوسطى والدنيا فتأثرت أكثر بعمليات إلقاء الموساد الإسرائيلي القنابل على مراكزهم لإشعارهم بعدم الأمان ودفعهم للهجرة التي كانت أقرب إلى التهجير.
صدام مع الحركات الوطنية العربية
ويمكن توجيه ملاحظة عامة تتعلق بصدام الطائفة اليهودية في البلدان العربية، ككتل لا تخلو من استثناءات، مع الحركات الوطنية في أكثر من بلد عربي. وقد حصل ذلك بأشد صوره في العراق إثر فشل حركة رشيد عالي الكيلاني في 1941 وابتهاج الجماعة اليهودية بعودة النفوذ البريطاني إلى بغداد، الأمر الذي أدى إلى وقوع أحداث «الفرهود» أو مقتل أكثر من مئة يهودي يومها.
ولعل كتاب د.عباس شبلاق «هجرة أو تهجير: ظروف وملابسات هجرة يهود العراق» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2015) الذي انتظر القارئ الغربي ثلاثين سنة لصدور ترجمته إلى العربية والذي تصادف نشره أخيراً مع صدور كتاب د. خيرية قاسمية، يردم هذه الهوة البحثية ويقوم بدراسة عامودية أعمق وإنْ أضيق لحالة واحدة هي الحالة العراقية. وهو يرد على السؤال الذي طرحه في عنوان الكتاب بأن ما جرى كان مزيجاً من الهجرة والتهجير في الوقت ذاته وإن كان التهجير هو الصفة الغالبة كما سنعرض. وهو يفسر ذلك بأن صدام الكتلة السكانية اليهودية مع الحركة الوطنية العراقية المعادية لبريطانيا والميالة لألمانيا الهتلرية وارتدادات حرب فلسطين وقيام إسرائيل في 1948، كلها أحداث مهمة في السياق الذي نستعرض، لكنها، مع ذلك، لم تجعل الهجرة إلى إسرائيل جذابة لدى يهود العراق واستمرت النخب اليهودية بالحفاظ غلى علاقاتها مع النخب العراقية السياسية والاقتصادية الأخرى. إلا أن جهاز الموساد الإسرائيلي بدأ يوفد موفديه إلى العراق لبث القلاقل لحمل اليهود للهجرة إلى إسرائيل. هنا تلاشت عند جناح من التيار القومي العربي حدود التمييز بين اليهودية والصهيونية، لكن الحكومة العراقية الموالية لبريطانيا لم تأخذ ذلك بعين الاعتبار واستمرت في دعم التيار المعادي للعروبة مما زاد من العداء الشعبي ضد كل المرتبطين بالسياسة البريطانية. وكان لاتخاذ بغداد جملة قيود على اليهود نتائج جعلتهم قلقين على أوضاعهم.
إلا أن التحول الحاد حصل من خارج العراق عندما أدركت الحركة الصهيونية أن تهجير يهود أوروبا لن يحقق أهدافه فاتجهت إلى وسائل قسرية لتهجير يهود الشرق. وقد لعبت بريطانيا والولايات المتحدة دوراً في مساعدة إسرائيل على ذلك. وقُدم اقتراح بإقامة حلف غربي مع بعض البلاد العربية يشمل تبادل السكان اليهود في العراق والفلسطينيين في وطنهم. لكن تل أبيب لم تنتظر تبلور الخطة المذكورة وقامت بتنفيذ تهجير جماعي لليهود من البلاد العربية والإسلامية خلال 1949- 1953 كان بينهم 135 ألف يهودي عراقي. وقد نجحت الخطة لسببين اثنين:
الأول، إيفاد مبعوثين للموساد لتجنيد الشبان اليهود وتضخيم أحداث معينة إعلامياً وعلى المستوى الدولي لتشجيع اليهود على الهجرة. وأدت شراسة الحملة الصهيونية إلى إصدار الحكومة العراقية قانوناً في آذار (مارس) 1950 يسمح بهجرة من يرغب من اليهود مع إسقاط الجنسية العراقية عنه.
الثاني، دعم الولايات المتحدة مباشرةً هذه الخططَ مالياً ولوجستياً ودبلوماسياً في فترة رئاسة هاري ترومان. وقد استجابت أكثر من حكومة عربية للضغوط الأميركية، وبدرجة أقل البريطانية التي لعبت دور الوكيل المساعد لرغبات الإدارة الأميركية في موضوع التهجير.
ولا شك في أن عوامل أخرى ساهمت في خروج اليهود العراقيين إلى إسرائيل، منها تدبير الموساد عمليات زرع قنابل ضد المراكز اليهودية في بغداد وتدبيره أيضاً لعملية جوية واسعة لنقلهم جواً من بغداد إلى تل أبيب (تذكرنا بعملية نقل يهود الفلاشا الإثيوبيين في الثمانينات) بحيث بلغ عددهم في 1950 و1951 نحو 121541 من نحو 124638 كان مجموع الذين تركوا البلاد بين العامين 1948 و1953. ويتحدث الكتاب عن تواطؤ بين بعض السياسيين العراقيين والحركة الصهيونية في هذا المجال (اتفاق شلومو هليل- توفيق السويدي). ومع أن الكتاب ينشر في ملاحقه وثائق بريطانية وأميركية حول أوضاع اليهود في العراق في تلك الفترة، إلا أن الأبحاث المستقبلية يحب أن تحاول الغوص العميق لتبيان تفاصيل الدور الخفي الذي لعبته لندن وواشنطن في هذا المجال، خصوصاً أن المشروع الصهيوني كان -و لا يزال- جزءاً من الاستراتيجية الغربية الأوسع في العالم العربي وجواره.
مغزى التحول من الغرب إلى الشرق
وهناك ظاهرتان متعاكستان من المفيد التوقف عندهما في ما يخص الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، سواء من البلاد العربية أم من غيرها، وهما أن معظم الذين تركوا بلادهم الأصلية فضّلوا الانتقال إلى بلد غربي غير إسرائيل فمن بين 27 ألف يهودي مصري تركوا الكنانة، مثلاً، استقر 7200 منهم فقط في إسرائيل إي نحو الربع. كما أن المهاجرين اليهود يحرصون حتى اليوم على أن تكون لديهم جنسية مزدوجة حتى يستطيعوا المغادرة إلى بلاد تقدم لهم ظروف عمل أفضل. ومسألة الهجرة المعاكسة من إسرائيل مسألة تأخذها المؤسسة الصهيونية بجدية. إلا أنه يجب ألا يغفل عن بالنا أيضاً أن معظم المهاجرين اليهود من الولايات المتحدة في السنوات العشرين الماضية كانوا من اليهود المتدينين واليمينيين بحدة، وهم الذين يمثلون حجر الزاوية في حركة الاستيطان في الضفة الغربية كما أنهم ساهموا في تحويل السياسة الصهيونية الداخلية من سياسة شبه علمانية إلى سياسة شبه دينية لا تخجل من الإعلان عن أحقية اليهود الحصرية في سكنى فلسطين وإعلانها دولة يهودية محضة.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن الحركة الصهيونية نبتة غربية أوروبية لم يكن لها علاقة بيهود البلدان العربية أيديولوجياً ولا سياسياً، إلا أنه لا بدّ من التوقف عند حقيقة أن نحو 10 في المئة فقط من سكان إسرائيل كانوا مهاجرين من البلاد العربية في البداية، إلا أن نسبة اليهود الشرقيين، عرباً وغير عرب، ارتفعت الآن إلى نحو 60 في المئة، أي أنهم يمثلون غالبية السكان. وهذه نسبة دالة على أمور عدّة منها أن إسرائيل فشلت في أن تكون وطن معظم يهود أوروبا وهو الأمر الذي كان حافز الحركة الصهيونية الأول. كما أن ارتفاع نسبة اليهود الشرقيين بعد 1948 يدل على السياسات الخاطئة للحكومات والمجتمعات العربية والضغوط الخارجية ومخططات إسرائيل المستمرة المدروسة بعناية لتهجير أي أقلية يهودية أينما كانت. وجاء في الأنباء أخيراً أنها مهتمة بتهجير يهود الهند بعد أن فرغت من تهجير يهود الحبشة واليمن وتدرس إمكان القيام بذلك مع يهود المغرب. إلا أن هذه الحقيقة تعني أيضاً أن إسرائيل لم تعد، على المستوى الديموغرافي على الأقل، دولة غربية بل شرقية. وهذا التحول في تشكيلتها يعكس نفسه اليوم على الكثير من توجهاتها وأحزابها وانقساماتها السياسية، فهي مستمرة في معاداة محيطها وإن كانت قد أخذت تشبه هذا المحيط في بعض الوجوه.
 

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,660,830

عدد الزوار: 6,907,297

المتواجدون الآن: 96