تحديات يفرضها الواقع وآليات للمواجهة والمجابهة العقلية و«العدالة العالمية» مشكلة محوَرية بالنسبة لقضية صراع الأصوليات

تاريخ الإضافة الجمعة 31 تموز 2015 - 6:24 ص    عدد الزيارات 743    التعليقات 0

        

 

تحديات يفرضها الواقع وآليات للمواجهة والمجابهة العقلية و«العدالة العالمية» مشكلة محوَرية بالنسبة لقضية صراع الأصوليات
القاهرة: إميل أمين
ما هي الخلاصة الأولية للحالة التي يوجد عليها العالم حتى الساعة؟ وهل من آليات للأديان تجابه من خلالها بفكرها السليم لحظات الغلوّ والتطرف التي باتت في واقع الحال تتجاوز الأديان الإبراهيمية (أو التوحيدية) الثلاث، إلى الأديان أو المذاهب الوضعية الأخرى، لا سيما في شرق آسيا، حيث نحو نصف سكان العالم من البوذيين والطاويين والماويين والسيخ والهندوس، وما إلى ذلك؟
الثابت أن الأصولية في صعود، وكما تشير الأحداث الأخيرة التي يشهدها العالم، يوجد أصوليون في معظم الديانات، إن لم يكن كلها، وقد أشارت المؤرخة الدينية البريطانية كارين أرمسترونغ، في حديث أدلت به أخيرًا في مجلس برلمان ديانات العالم إلى أن «الأصولية تظهر في شكل تمرّد على المجتمع العلماني الحديث، لأنها تدركه كتهديد لها، وأنها تضرب بجذورها في الخوف من تعرّضها للإبادة، وقد أسهمت فيها النزعة التجارية بدافع الجشع والخوف من المجهول».. ما الذي نخلص إليه من رؤية هذه المستشرقة البريطانية الشهيرة؟
بالقطع، يمكننا القول إن المعتقدات الضيقة الأفق التي تعبّر عنها عقلية الأصولية الراديكالية تشجّع على الإتيان بسلوكيات مدمّرة، وهي الحضانات التي ينشا فيها التعصّب والنعرات، وقد أدى هذا إلى استمرار الحروب والإبادة العنصرية من دون احترام لحسن أحوال الآخرين. وكثيرًا ما يعتمد الأصوليون المستندون على الديانات على النصوص المقدسة لإضفاء المصداقية على معتقداتهم، ولتأكيد هويتهم، لكننا نجد في معظم الأوقات معتقدات محوَرية مثيلة وحكايات تكرّر في الكثير من الديانات.
فمثلاً، اليهود والمسيحيون والمسلمون جميعهم يُرجعون إرثهم إلى إبراهيم. وعلى الرغم من أن نسخ الحكايات تختلف عن بعضها بعض الشيء، فإننا نجد في جميعها أفكارا واحدة يمكن تتبعها إلى الجيل التوراتي لإسحاق وإسماعيل، في عام 1800 ما قبل الميلاد، وتسمح لنا قصتهما بإلقاء نظرة على أوجه التشابه بين الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام.
هل من تحدّيات تفرضها الأصوليات الدينية على المجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء؟
المقطوع به أن الأصولية المنغلقة تُعدّ من الأخطار الكبرى التي تعصف بكل مجتمع، إذ لا يمكن حل أي مشكلة في مجتمع ما انطلاقًا من معتقداته الجامدة. ويكمن خطر الأصولية في رفضها تقبّل الحوار وعدم اعترافها بهوية «الآخر»، والأخطر من ذلك الأصولية العمياء التي تلوي عنق النص الديني - أي دين كان - تبريرًا لمواقف متطرّفة بعيدة كل البعد عن روحه. إن هذا لوضع خطير، لا سيما وأن أبطال «الهوس الديني» هم شباب الجيل الجديد.
في مقدمة تلك التحديات فكرة الأصولي عن امتلاك الحقيقة المطلقة. وأصل الإشكال في هذه القضية يمكن إرجاعه إلى الفيلسوف إيمانويل كانط، الذي بلوَر مصطلح «الدوغما»، أي الاعتقاد الزائف في قدرة الإنسان على اقتناص المطلق، لأن الإنسان عاجز بحكم طبيعة العقل عن هذا الاقتناص، ولهذا ألف كانط كتابه الشهير «نقد العقل الخالص» لكي يكشف عن هذا العجز إبستومولوجيا، أي استنادًا إلى نظرية المعرفة، ووضع الفلسفة النقدية مقابل الدوغماطيقية. وكان يقصد بالفلسفة النقدية قدرة العقل على كشف جذور الوهم القائم في تصوّر إمكان اقتناص المطلق، وتأسيسًا على نظرية المعرفة هذه يمتنع تأسيس المجتمع على مطلق معين، أي على «دوغما»، ومن ثم تصبح الديمقراطية هي البديل عن الدوغماطيقية.
هذه الإشكالية، أي الحقيقة المطلقة، يتعامل معها الأصولي بنوع من الاحتكار، فينكر على «الآخرين» امتلاك أي نوع من الحقيقة. ولهذا نتيجة حتمية هي تكفير «الآخر» المختلف، والحكم عليه بالدينونة الأبدية ما لم يرتد عن كفره.
إن ادعاء الأصولي امتلاك الحقيقة المطلقة يجعله لا يتوقع وجود حقيقة ما عند «الآخر»، وبل يرى أنه غير محتاج إلى أن يعرف «الآخر»، وكون الرغبة في الحوار تكون عادةً نابعة من الاعتراف بالقصور في استيعاب الحقيقة المطلقة، ومع الادعاء بامتلاك الحقيقة، كل الحقيقة، ينتفي إذ ذاك الحوار.
وتمتد التحدّيات إلى فكرة الانعزالية، فالأصولي ينعزل عادة عن «الآخر» المختلف، أو يبعده عن دائرته، ومن المدارس الأصولية، تمنع أي نوع من الشركة مع من هم خارج الصف السماوي، وحتى شركة المأكل والمشرب.
بعض الجماعات الأصولية تحاول بناء «الأمة» وليس «الدولة»، والفرق شاسع بين الاثنين، فـ«الأمة» حسب الفكر الأصولي، جماعة تجتمع حول وحدة العقيدة والإيمان، وليس بالضرورة وجود عناصر أخرى، في حين أن «الدولة» تتضمن التعدّدية.
يختصر الفكر الأصولي الإنسان بدينه وعقيدته، ولا يمكن معه وضع حد فاصل بين الإنسان وإنسانيته من جهة، ثم دينه وعقيدته من جهة ثانية.
«الآخر» في الفكر الأصولي، إما هو مثلي فأقبله وأتحزب له، وإما هو مختلف عني فأحوّله إلى مجرد مساحة تبشيرية. ليس هناك في الفكر الأصولي، ما يعرف بالقيمة الإنسانية التي تجمع بين مختلف أنواع البشر.
وبسبب انعدام المحبة والغفران، يستنهض الأصوليون تاريخ الصراعات الدينية لكي يسوّغوا رغبتهم في إقصاء «الآخر» المختلف. وفي هذا الإطار يستحضر اليهود خلافاتهم مع المسلمين في شبه الجزيرة العربية وزمن نزول النبوة، ومعاركهم مع الأوائل من المسلمين، بينما يستحضر المسلمون لاحقا تاريخ الحملات الصليبية (حروب الفرنجة)، ويستحضر المسيحيون تاريخ المماليك والعثمانيين. والحقيقة أن الأطراف الثلاثة تبغي من هذا تسويغ تصرّفاتها السلبية تجاه «الآخر» المختلف، وتطرّف الأصولي اليهودي أو المسيحي أو المسلم في الإيمان يدفعه إلى التطرّف في الموقف، معتبرًا بذلك أنه يتفانى من أجل رسالته، وقد يضحي بحياته من أجلها. وهذا ما يدفعه أكثر فأكثر إلى سلوك طريق «الشهادة» التي تؤدي به إلى ملاقاة وجه ربه، وهذا أقصى ما يحلم به ويتمناه.
ما هو أفضل طريق يمكن للأديان كافة، لا سيما اليهودية والمسيحية والإسلام، تقديمه للبشرية في القرن الواحد والعشرين لمواجهة ومجابهة الأصوليات الدينية المتطرفة؟
المؤكد أن القيم الإنسانية تمثل رابطًا عامًا، وقاسمًا أعظم مشترك يمكن للأديان أن تعيد اكتشافها في نفوس الناس. ومن هذه الحقوق الأساسية والقيم الإنسانية: الحق في الحياة والحق في التمايز، والحق في التميز، والحق في الاحترام، وهناك كذلك المبادئ الإنسانية الرئيسية مثل الحرية والعدالة، والمساواة والرحمة، وحب الجمال والانسجام الخلقي. وجميع هذه القيم لا يختلف عليها كأساس متين وقوي في الأديان الإبراهيمية الثلاث وترسيخ وجودها يعني تقليص مساحات التطرف والأصولية.
على أن مسالة الحرية والحق مسألة دقيقة، ويجب أن تُفهَم على حقيقتها. لا حرية مطلقة لأي إنسان، فحرية الفرد محدودة بحرية «الآخر» الذي يشاركه العيش في الدائرة نفسها، الجماعة الدينية، المجتمع، الوطن. والحق كذلك، فحق الفرد يقف على حق «الآخر»، أو حق الجماعة المنتمي إليها هذا الفرد.
هذه القيم الإنسانية حاضرة في كل إنسان ولكن بنسب متفاوتة، فبقدر ما يشجع الإنسان على بروزها في مسلكيته تكون حاضرة. وكلما عاد الإنسان إلى إنسانيته فإنه يعود إلى هذه القيم، وتختفي هذه القيم تحت ركام «الأنا» المتجسدة في التكبر والطمع. وقد تكون هذه «الأنا» فردية أو جماعية، مثل «أنا» القومية، أو الوطنية، أو القبلية، أو العائلية، أو حتى الفرقة الدينية.
في هذا السياق يجب ألا يكون الدين متعارضًا مع هذه القيم، بل يجب أن تكون هذه القيم متضمنة في منظومة الدين الأخلاقية، لأن الله هو محور كل دين، وأما التعبير الديني فبشري يأتي في المظهر الثقافي، حيث يوجد الإنسان المعبر عن تدينه.
ولهذا يجب أن تكون مهمة الدين العليا هي إبراز هذه القيم الإنسانية في الفرد والمجتمع، وتدريب الإنسان على العيش فيها. إن فعل العبادة في الدين ما هو إلا عملية غرس أخلاقية الله في العابد، وكل ممارسة دينية تهدف إلى تدريب الممارس على العيش في هذه القيم.
وأي ممارسات دينية على خلفيات أصولية تعارض هذه القيمة الإنسانية يجب أن يُشك في جدواها، فأي توجّه ديني أو آيديولوجي يتسبّب في التعدّي على الفرد، في أي من هذه القيم الإنسانية، يجب أن يُعاد النظر فيه.
ولعله من بين أهم الآليات التي يمكن من خلالها مجابهة الأصوليات، تلك المتعلقة بإدراك شكل من أشكال العدالة الدولية، في حل قضايا وصراعات حول العالم، تكون سببًا رئيسًا في نشوء وارتقاء تلك الأصوليات.. هل من مثال على ذلك؟
في كتاب «صراع الأصوليات: التطرّف المسيحي والتطرف الإسلامي والحداثة الأوروبية»، للأكاديمي الألماني هاينريش فيلهلم شيفر، يحدّثنا شيفر عن موقف الأصوليين الإسلاميين تحديدًا من قضية «العدالة»، التي تعتبر بشكل تقليدي في الإسلاماوية والأصوليات الإسلامية عاملاً مهمًا من أجل التعبئة، كما تعتبر قضية العدالة مجال اهتمام عالمي مشترك بين الحركات الإسلامية والمحلية والعلمانية الاجتماعية الإصلاحية. وهنا يوجد للحركات الإسلامية موقف خاص فيما يتعلق بتعبئة الأتباع وحشدهم، فالأصولية الإسلامية تقوم بالتعبئة أيضا باسم «العدالة العالمية» وهذا بجانب مصالحها الدينية. وفي هذا الإطار تعالج هذه الأصولية موضوع العدالة الاجتماعية، ولكن ليس بوصفه صراع مصالح، بل تقوم بتحويله إلى صراع هوية وتعالجه دينيًا.
أما الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة الأميركية فتمارس التعبئة «من أعلى» بهدف تأمين مصالح الهيمنة الأميركية. وهنا لا يكون الإقصاء الاجتماعي هدفًا في حد ذاته، ولكنه تبعة مقبولة ببساط من تبعات هذه السياسة.
كما يجري هنا استبعاد مواضيع «العدالة العالمية» من عملية التعبئة بشكل أساسي لصالح مواضيع السيطرة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة الأميركية، وإقصاء الآخرين. ويعتبر الصراع بين كلتا الأصوليتين «صراع هوية» تمتد جذوره في صراعات المصالح المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والسيطرة العسكرية.
وباختصار غير مخلٍّ، فإن مشكلة «العدالة العالمية» هي لا شك مشكلة محوَرية بالنسبة لقضية صراع الأصوليات. فمن ناحية، تعتبر استراتيجيات صراعات المصالح من أجل تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية الأساس الذي تقوم عليه صراعات الهوية التي تتبنّاها الحركات الأصولية في اليهودية والإسلام والمسيحية. ولذلك فإن حل مشكلة العدالة العالمية وتكوين سلطات قوية متعدّدة الأطراف وذات مجال عمل عالمي، سيكون له عظيم الأثر على حل صراع الأصوليات.
ما الذي يتبقّى قبل الانصراف؟
على الرغم من كل ما لكلمة «أصولية» من إيجابيات، إن كان لمدلول اشتقاقها اللغوي أو لرغبة مخلصة في العودة إلى نقاوة الدين وأصول العقيدة والإيمان، فإن أداء الجماعات الدينية الأصولية السلبي، إن كان على صعيد التنظير الآيديولوجي أو السلوك العملي، قد طغى وسيطر وطفا فأصبح للكلمة دلالات استعمالية سلبية. ولعل الإشكالية المتوجب مواجهتها اليوم هي أن الأصولية منهج تفكير موجود عادة في ميدان العلوم الإنسانية بشكل عام، وفي ميدان الدراسات الدينية بشكل خاص. ويقوم هذا الفكر على مبادئ العودة إلى الأصول (الجذور) والقراءة الحرفية للنصّ الديني، وينتهي إلى احتكار الحقيقة وتضخيم الذات القومية واستبعاد «الآخر» المختلف، بل ومحاولة إلغاء هذا «الآخر» نهائيًا.
أما اليوم، وبعد كثير من المتغيّرات المعرفية والديموغرافية والسياسية، على أثر الأعمال المشينة التي نتجت من الأصوليات الدينية، بات ولا بد من الوقوف أمام التحدّيات وأعمال آليات الحل، كي لا تدخل البشرية في طريق انفجار مسكوني يؤدي بالجميع إلى موارد التهلكة. فبعدما بدأ العالم يمضي في طريق «العولمة»، ها هو يعود من جديد لينتكص على أعقابه، ولتجد القوميات والأصوليات والعرقيات مكانًا في عالم القرن الحادي والعشرين، مما ينذر بمولد ما هو أشد هولاً من الفاشية، وأخطر بكثير من النازية.

ملف الصراع بين ايران..واسرائيل..

 الخميس 18 نيسان 2024 - 5:05 ص

مجموعة السبع تتعهد بالتعاون في مواجهة إيران وروسيا .. الحرة / وكالات – واشنطن.. الاجتماع يأتي بعد… تتمة »

عدد الزيارات: 153,739,730

عدد الزوار: 6,911,748

المتواجدون الآن: 105