المفاهيم الخاطئة في العلاقات الإسلامية ـ المسيحية

تاريخ الإضافة السبت 27 حزيران 2015 - 8:33 ص    عدد الزيارات 706    التعليقات 0

        

 

المفاهيم الخاطئة في العلاقات الإسلامية ـ المسيحية
محمد السماك
تتألف هذه الورقة من ثلاثة أقسام():

يتناول القسم الأول منها أسباب ودوافع القلق المسيحي في الشرق وعلاقتها بالإسلام.

ويتناول القسم الثاني النتائج المترتبة عن الهجرة المسيحية على هوية الشرق العربي وعلى مستقبله.

أما القسم الثالث فيتناول دور المسلمين في تبديد القلق المسيحي وفي تجدد الثقة المتبادلة.

أولاً: في أسباب القلق المسيحي ودوافعه:

في الأساس ليس القلق المسيحي اصطناعياً. انه رد فعل على الأحداث الماساوية التي عصفت بالعديد من الدول العربية والتي استهدفت المسيحيين لدينهم قتلاً وتهجيراً وسبياً، وتدميراً لأماكن عبادتهم، كنائس وأديرة.

ان موجة التطرف والغلو الدينية، أو باسم الدين، بما اتسمت به من عنف، وبما حققته من سيطرة على مساحات واسعة (من العراق وسوريا تحديداً)، وفي الدرجة الأولى بما رفعته من شعارات تكفيرية وإلغائية، لم تجابَه بموجة إسلامية معاكسة تتصدى لها بقوة فقهياً وعملياً. أدى هذا الأمر الى زيادة الشعور بالإحباط لدى المسيحيين، والى زيادة خوفهم على المستقبل والمصير. فكانت الهجرة الواسعة الى العالم الخارجي، مما شكل ظاهرة لا سابق لها في التاريخ الحديث للعلاقات الإسلامية المسيحية.

فقد تراجعت نسبة المسيحيين في الشرق العربي الى أكثر من النصف منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم. (وسوف أتناول نتائج هذه الهجرة فيما بعد). وهذه النسبة مرشحة للمزيد من الاستنزاف إذا استمر تصاعد التطرف الاستعدائي والإلغائي.

هناك عدة أسباب للقلق المسيحي. أهمها تلك التي تتعلق بالمفاهيم الدينية التي ترفع لواءها حركات التطرف الإسلامي، والتي تعتبرها من ثوابت العقيدة الإسلامية، وهي ليست كذلك.

المفهوم الأول: تكفير المسيحيين

يتعمّد بعض الحركات الإسلامية المتطرفة إخراج المسيحيين واليهود من الإيمان استناداً الى فهم خاطئ للآية القرآنية التي تقول:» ان الدين عند الله الإسلام «(1)، «ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه « (2). ذلك انه من خلال فهم يحتكر الإيمان بالله بالرسالة المحمدية حصراً. إن هذا الفهم الخاطئ يخرج هذه الحركات ذاتها من روح الإسلام ومن جوهر النص القرآني.

فالإسلام هو الإستسلام لله الواحد. وبهذا التحديد فان الإسلام لا يكون بالإيمان بما جاء به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فقط. بل يكون بالإيمان بجميع الرسالات السماوية التي جاء بها جميع الرسل والأنبياء أيضاً، من ابراهيم انتهاء بمحمد عليهم السلام. ولذلك فان جوهر الإسلام هو الإيمان بهؤلاء الرسل والأنبياء جميعاً، وبالكتب السماوية التي أنزلت اليهم، وباعتبارها كتباً موحى بها من الله، وبخاصة الانجيل والتوراة اللذين يصف القرآن الكريم كلا منهما بأن « فيه هدى ونور« (3) .

المفهوم الثاني: الذمية

الذمية ليست نصاً قرآنياً وليست نظاماً دينياً، ولكنها «عقد» مدني توافق عليه (في حينه) طرفان: مسلمون في السلطة ومسيحيون مؤتمنون.

وعندما استحدث المسلمون هذا النظام، لم يكن هناك نظام أفضل وأكثر انصافاً لتنظيم التعايش مع غير المسلمين. أما اليوم فهناك مفهوم المواطنة.

هذا العقد أسيء اليه وشوه في العهدين المملوكي والعثماني لأنه جعل من المسيحي مواطناً من الدرجة الثانية، ولأن المسيحي تعرّض في ظله الى امتهان لكرامته وانتزاع لحقوقه. ولذلك فان الدعوة اليوم الى هذا المفهوم تعني دعوة الى العودة الى تلك التجاوزات اللاانسانية واللاوطنية واللادينية، ولذلك يعتبر المسيحيون الذمية اجهازاً على الوطنية وعلى العيش المشترك. وهم على حق في ذلك. ان الذمية مفهوم تجاوزه الزمن، وانتهى كعقد بتخلي المتعاقدَين عنه، وبقيام الدولة الوطنية التي صنعها مسلمون ومسيحيون معاً. ومع تبلور مفهوم المواطنة الذي يساوي بين المواطنين من كل الأديان والمذاهب ومن كل الأعراق والأجناس، تصبح الذمية موضوعاً تاريخياً وليس قاعدة دائمة وثابتة. ومن نوافل القول أن تجاوز الذمية ليس تجاوزاً للشرع الإسلامي ولا للعقيدة الإسلامية. فالذمية صفحة مطوية من تاريخ طويل شهد فترات مشرقة وفترات مظلمة، كما اشار الى ذلك الارشاد الرسولي حول لبنان 1995.

المفهوم الثالث: الصليبية

في كل مرة تقع مشكلة سياسية يكون مسيحي طرفاً فيها، حزباً كان أو مرجعاً سياسياً أو دينياً، يرفع في وجهه شعار الصليبية، للطعن به وبموقفه، وللإساءة اليه والتشهير به. والواقع هو ان الحملات الصليبية على الشرق لم تكن حملات تبشيرية بالمسيحية. كانت حملات غربية توسعية تحت شعار الصليب وبحجة تحرير القدس من المسلمين. والدليل على ذلك ان رعايا الكنائس الشرقية وكذلك اليهود - كانوا أول ضحايا تلك الحملات، بدءاً بالقسطنطينية (اسطنبول اليوم) حتى القدس ذاتها؛ فقد دمّر الصليبيون كنائس، وقتلوا رهباناً وكهنة، وأحرقوا بلدات وقرى مسيحية كانت عامرة بأهلها الآمنين. وأخبرني البابا شنودة، بابا الاقباط الراحل، ان الكنيسة تقدّس راهبات قتلنَ على أيدي الصليبيين.

ولقد أدرك المؤرخون العرب هذه الحقائق مبكراً، فأطلقوا على تلك الحملات اسم «حملات الفرنجة» لأنهم عرفوا ان مسيحيي الشرق كانوا مع مسلمي الشرق، من ضحايا تلك الحملات.

المفهوم الرابع: الغرب والمسيحية الشرقية

كذلك، في كل مرة تنشب فيها أزمة في العلاقات العربية مع الولايات المتحدة أو مع أي دولة أوروبية، توجَّه الاتهامات الى المسيحيين العرب بأنهم طابور خامس يستقوي بالعدو الغربي ضد المسلمين والعرب. ومنشأ هذا الخطأ، بل الخطيئة، هو اختلاط مفهوم الغرب والمسيحية في أذهان المتطرفين الإسلاميين. بحيث يتصورون أن المسيحية المشرقية هي امتداد للغرب أو انها رأس حربة له ؛ أو ان المسيحيين الشرقيين هم بقايا الصليبيين الغزاة. ينقض هذا الفهم أمران. الأمر الأول هو تخلّي الغرب عن مسيحيته وفك ارتباطه الثقافي بالدين، واعتماده العلمانية أساساً لتنظيم مجتمعاته.

وعندما يطرح الغرب نفسه مدافعاً عن حقوق مسيحيي الشرق، فانه لا يتحرك من منطلق إيماني ديني، ولكن من منطلق استغلالي للدفاع عن مصالحه. أما الأمر الثاني فهو وقوف المسيحيين المشرقيين ضد الاستعمار الغربي، وضد الاحتلال الصهيوني، كما تؤكد ذلك الحركات الوطنية التي قادها أو شارك فيها وطنيون مسيحيون في لبنان وسوريا ومصر والعراق والأردن.. وبخاصة في فلسطين.

المفهوم الخامس: مفهوم الإيمان

شكل السكوت على تكفير غير المسلمين أساساً لتكفير المسلمين أيضاً. وتوسع التكفير ليشمل مسلمين من أهل المذهب الواحد لمجرد اختلاف في الرأي السياسي.. او حتى الشخصي !!

في الاساس، وصف القرآن الكريم المسيحيين بأنهم مؤمنون. وامتدح قساوستهم ورهبانهم. وصاهرهم النبي محمد عليه السلام قبل البعثة وبعدها. وتعاقد معهم على قاعدة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، وحرم أي اعتداء عليهم أو على كنائسهم أو أديرتهم، وصنفها بيوتاً لله يُرفع فيها اسمه ويسبح له.

يؤكد ذلك العهد النبوي لنصارى نجران، والعهدة العمَرية لبطريرك القدس. ان احتكار الإيمان وإخراج أهل الأديان والعقائد الدينية الاخرى المختلفة من رحمة الله، يتناقض مع المفهوم الإسلامي للإيمان الذي يتسع برحابة لأهل الكتاب. بل ان هذا المفهوم لا يقتصر حُكماً عليهم وحدهم (أي على المسيحيين واليهود) ولكنه ربما يتسع لغيرهم أيضاً. ذلك ان الله سبحانه وتعالى أخبرنا في القرآن الكريم انه ما كان ليحاسب حتى يبعث رسولاً، اي حتى يعرّف الناس الى طريق الإيمان به من خلال الرسل والأنبياء. وأخبرنا كذلك بأن ثمة أنبياء ورسلاً لم يذكرهم في القرآن الكريم.

المفهوم السادس: الكرامة الانسانية

يحصر المتطرفون حق الكرامة بالانسان المؤمن بالإسلام وحده، وبمفهومهم الحصري للإسلام. وبذلك يخرجون المسيحيين أبناء الوطن الواحد، وأبناء الأسرة العربية الواحدة من حق الكرامة. علماً بأن القرآن الكريم يقول «ولقد كرّمنا بني آدم» (4) ، اي ان الانسان مكرّم من الله لذاته الانسانية، وليس لإيمانه بأي دين أو عقيدة. والله استخلف الانسان (الانسان بالمطلق) ولم يشترط للاستخلاف أن يكون الانسان مسلماً تحديداً أو مؤمناً بأي دين أو عقيدة. إن حصر الكرامة بفئة معينة من الناس، هو مفهوم خاطئ لأنه مفهوم احتكاري يتناقض مع المفهوم الإسلامي المنفتح الذي يجعل الكرامة حقاً للناس جميعاً وهبة منه لهم جميعاً. فكيف اذا كان هؤلاء الناس من ابناء الوطن الواحد ومن أبناء الأسرة الواحدة أيضاً ؟

المفهوم السابع: الاختلاف

يتناقض مفهوم الاختلاف الذي يقول به الإسلام على انه قائم ومستمر بإرادة إلهية ولحكمة إلهية، مع مفهوم احتكار الحقيقة الذي يقول به المتطرفون والغلاة الذين يعتبرون كل رأي مختلف، كفراً وخروجاً على الدين.

فالاختلاف بين الناس عنصرياً وثقافياً ولغوياً، دينياً ومذهبياً وعقائدياً، هو حقيقة طبيعية. والله وحده يحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. اي انه ليس لأي انسان الحق في النظر في ضمير الآخر للحكم له أو عليه. بل ان الحكم في ذلك هو لله وحده ؛ وهو حكم مؤجل حتى يوم القيامة بالنص القرآني الواضح.

صحيح ان هناك اختلافاً بين الإسلام والمسيحية في فهم وفي تحديد طبيعة الوحدانية الإلهية، ولكن الصحيح أيضاً أن المسيحية اليوم لا تقول، بل لم يعد بينها من يقول ان الله ثالث ثلاثة، ولكنها تقول بإله واحد، رحمن رحيم.

وحتى داخل الإسلام ذاته، فرّق الإسلام بين الاختلاف الذي أقرّه ودعا الى احترامه والى تقبّله، وبين التفرق الذي نهى عنه وحذر منه. فقال القرآن الكريم:« واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا « (5)، ولم يقل ولا تختلفوا.

المفهوم الثامن: الشريعة

يبدي المسيحيون العرب والشرقيون قلقاً كبيراً من هذين المفهومين المتلازمين، لأنهما يضعان غير المسلمين خارج دائرة المواطنة، أو يجعلان منهم مواطنين من الدرجة الثانية. وهم على حق في ذلك. ولكن من حيث المبدأ فان فرض تطبيق الشريعة الإسلامية على المسيحيين يتناقض مع النص القرآني الذي يقول «وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه « (6)، - أي في الانجيل. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. ولم يقل القرآن الكريم فليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله في القرآن !!.

ثم كيف تفرض الشريعة على غير أهلها والإسلام يقول: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً؟ وكيف يكره المسيحيون على شريعة دين يقول هذا الدين نفسه باللااكراهية ؟ (لا إكراه في الدين).

المفهوم التاسع: الخلافة

أما بالنسبة للخلافة فانها تفهم على ان الدعوة اليها هي دعوة لدولة دينية، تطرح المسيحيين جانباً. والواقع هو ان نظام الخلافة ليس نظاماً قرآنياً ولا هو وصية نبوية. وفي الأساس لا دولة دينية كهنوتية في الإسلام، كما قالت وثيقة الأزهر الشريف، فالخلافة نظام تمّ التوافق عليه بعد وفاة النبي ليستقوي الحاكم المسلم بصفته خليفة له. وبعد خليفة رسول الله أبو بكر الصديق حمل خلفاؤه لقب أمير المؤمنين.

اختلف صحابة النبي شخصياً وقبلياً وعشائرياً ـ حتى قبل إيوائه في مرقده الأخير.

وتمحورت خلافاتهم حول من يتولى السلطة من بعده؟ وكيف؟. وما كان لهم ان يختلفوا لو كان هناك نص بالخلافة. ولقد مات ثلاثة من الخلفاء غيلةً (عمر وعثمان وعلي). وفجّرت اختلافاتهم الفتنة التي لم تخمد حتى اليوم.

فمن بعدهم اصبحت الخلافة خلافات تقوم الواحدة على أنقاض الأخرى. ولاعطاء الامبراطورية العثمانية بعداً دينياً سمي السلطان العثماني وهو ليس عربياً ولا قرشياً «خليفة «. وعندما أراد البريطانيون معاقبة الخليفة العثماني لتحالفه مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، حاولوا صناعة خليفة آخر في العالم العربي أو في الهند (التي كانت تحت سيطرتهم)، ولما فشلوا، عملوا على إلغاء الخلافة كنظام، إلا ان الإسلام لم يُلغَ وبقي كدين محفوظاً بإرادة الله وفضله.

هذا يعني ان سقوط نظام الخلافة ليس سقوطاً للإسلام. وان العودة الى نظام الخلافة ليس عودة الى الإسلام. فالإسلام ليس نظاماً سياسياً للمسلمين، ولكنه رسالة رب العالمين الى الناس أجمعين.

ثانياً: في النتائج المترتبة عن الهجرة المسيحية

إن ظاهرة الغلو والتطرف التي فجرت القلق المسيحي في الشرق تشكل السبب الرئيس للهجرة المسيحية من الشرق.

فمع الخلل في اسس المواطنة، يأتي التطرف بما هو خروج عن اصول الشريعة والفقه الإسلاميين، وبما هو احتكار للحق وللحقيقة، ليضيف عاملاً اساسياً الى العوامل السياسية والاقتصادية المسبّبة للهجرة التي تعاني من آثارها الخطيرة مجتمعاتنا الوطنية.

وهذه الهجرة هي في حد ذاتها سبب من أسباب الإسلاموفوبيا. فهي تحمل رسالة الى الغرب بأنه لا يمكن التعايش مع الإسلام، لأن الإسلام يرفض الآخر. ولذلك فان رد الفعل الغربي يتجلبب بالمنطق الذي يقول: اذا كان الإسلام يرفض الآخر، فكيف يقبل بنا؟ وإذا كان من طبيعته أن لا يقبل بنا، فلماذا نقبل به؟.

من هنا ان الهجرة المسيحية من الشرق لا يقتصر ضررها على تفكيك نسيج المجتمعات الوطنية وعلى هدر وفقدان كفاءات ثقافية وعلمية واقتصادية كبيرة لا تعوّض، ولكنها تؤذي الحضور الإسلامي في الغرب وفي العالم وتنعكس سلباً على العلاقات الإسلامية - المسيحية في المجتمعات الدولية: أوروبة - اميركا الشمالية - استراليا كندا..الخ، وهو الأمر الذي يعزز مشاعر رفض الإسلام والتمييز ضد المسلمين.

ثم ان الإسلاموفوبيا بمعنى كراهية الإسلام، عن جهل به، تطلق ردات فعل عكسية في الدول الإسلامية يكون المسيحيون المشرقيون ضحاياها. وذلك لخطأ عدم التمييز بين الغرب والمسيحية، كما أشرنا سابقاً. ونتيجة لذلك تؤدي ردات الفعل هذه الى مزيد من التطرف، ليس في الشرق فقط انما في الغرب ايضاً. ومن شأن ذلك توجيه ضربات اضافية الى العلاقات الإسلامية - المسيحية في الشرق وفي الغرب على حد سواء. من هنا لا يمكن أو لعله لم يعد ممكناً معالجة اي ظاهرة من هذه الظواهر الثلاث بالمفرّق، ان كلا منها مسبب للآخر ومكمّل له. إن وقف نزيف الهجرة المسيحية - وهو هدف إسلامي مسيحي مشترك - لا يتحقق من دون كبح جماح ظاهرة التطرف والغلو في المجتمعات الإسلامية.

هذا الترابط على وهنه، يُلقي على المسيحيين وعلى المسلمين العرب والشرقيين مسؤولية استثنائية لصيانة العلاقات الإسلامية المسيحية وتجنيبها التداعيات السلبية الخطيرة. فالمسيحيون مؤهلون لأن ينقلوا الى العالم صورة بناءة عن تعايشهم مع المسلمين، ولكن حتى يتمكّنوا من القيام بذلك لا بد ان تكون اوضاعهم في مجتمعاتهم الوطنية أوضاعاً سليمة وبناءة. وهي لا تكون كذلك من دون ان ينعموا بحقوق المواطنة كاملة. والمسلمون مؤهلون لمساعدة مواطنيهم المسيحيين على اداء هذا الدور ولكنهم لا يستطيعون ان يفعلوا ذلك اذا لم تكن اوضاعهم في مجتمعاتهم الوطنية اوضاعاً سليمة وبناءة ايضاً. وهي لا تكون كذلك من دون استئصال ثقافة رفض الآخر وتعزيز ثقافة احترام الحريات الخاصة والعامة بما يحقق المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات.

تشكو مجتمعاتنا العربية من قلة في الديمقراطية ومن تخمة في التطرف والغلو. ان تغييب الديمقراطية بفرض أنظمة استبدادية قاهرة يتناقض مع متطلبات ادارة مجتمعات التنوع الديني والمذهبي والعنصري، ويعزز من التعصب، وينفخ في نار اللاثقة والتفرق والتمزق. ان حقوق المواطنة - بما فيها من حريات دينية - تتعرض للانتهاك بغياب الديمقراطية. ويذهب التطرف والتعصب والغلو الى حد محاولة إلغاء الآخر، أو إلغائه فعلاً. وهذا ما يحدث في العراق. وهو ما دفع المسيحيون العراقيون ثمنه الباهظ.

أدّت المعاناة الى الهجرة. ووصلت الهجرة الى مستوى استنزافي بدأ يهدد الهوية الوطنية ليس في العراق وحده، انما في دول عربية اخرى. والمجتمعات العربية التي كانت تقوم على نسيج من خيوط متعددة متداخلة ومتشابكة، بدأت تشعر بخطر التفكك والتحلّل، الأمر الذي يكشف صدر العالم العربي أمام طعنات أعدائه الخارجيين، وفي مقدمتهم العدو الاسرائيلي ومشروعه التفتيتي الذي يستهدف المنطقة العربية بتمزيقها الى دويلات طائفية ومذهبية وعنصرية متناقضة.

في ضوء هذه الأجواء من المهم التأكيد على الحقائق الآتية:

الأمر الأول ان مسيحيي الشرق هم مواطنون أصيلون واصليون وليسوا طارئين على المنطقة. وبالتالي فهم كمسيحيين ليسوا جزءاً من الثقافة الغربية ولا امتداداً للسياسة الأوروبية ؛ بل أنهم من صناع الثقافة العربية والمؤتَمنين على لغتها ومن بنائي الأوطان العربية والمدافعين عن سياداتها.

الأمر الثاني ان معاناة بعض مسيحيي الشرق هي وجه من وجوه معاناة تشمل كل شعوب المنطقة، وذلك نتيجة لأسباب عديدة أهمها:

اتساع العدوان الاسرائيلي بآثاره السلبية العميقة والواسعة.

ضمور الممارسة الديمقراطية من حيث انها الضامن الشرعي للحريات الفردية والجماعية.

تعثر مشاريع التنمية البشرية والاقتصادية.

ارتفاع موجة التطرف والتعصب وسوء توظيفها ضد جماعات دينية مسيحية وإسلامية أو عنصرية، كردية وأزيدية.

الأمر الثالث ان الإسلاموفوبيا في الغرب (بمعني كراهية الإسلام عن جهل به) ولدت ما يمكن وصفه بالمسيحانوفوبيا في الشرق، كردّ فعل على المظالم السياسية والانسانية المتمثلة في الدعم الغربي لاسرائيل. والظاهرتان سلبيتان، الا ان كلاً منهما تستمد تبريراتها من الأخرى.

الامر الرابع ان المعالجة تكون بالمواطنة واحترام حقوق الانسان والجماعات، كما تكون بتعزيز العلاقات الإسلامية المسيحية على المستوى الوطني والقومي وكذلك على المستوى العالمي.

ثالثاً: في دور المسلمين في تبديد القلق المسيحي

تمرّ العلاقات الإسلامية المسيحية في فترة حرجة جداً. يتمثل كما أشرنا سابقاً في الهجرة المسيحية من العديد من الدول العربية والتي وصلت الى حدود الاستنزاف. كما يتمثل في صعود التطرف الديني والعصبية المذهبية التي من أسوأ مظاهرها، الاعتداءات على «قسيسين ورهبان لا يستكبرون»، وتدمير أديرة وإحراق كنائس «يذكر فيها اسم الله كثيراً «، كما ورد في القرآن الكريم.

ان التصدي بالكلمة الطيبة لهذه الموجة الفاجرة من التطرف هو حق وواجب. حق للمجتمع، وواجب على كل مؤمن بدينه، حريص على وحدة مجتمعه وعلى أمنه وسلامته وخلاصه سواء في لبنان أو في الدول العربية الأخرى.

وفي زمن ترتفع فيه شعارات الغلو وتلقى هذه الشعارات هوى ورواجاً واستثماراً سياسياً، تبقى «الكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء«.

يؤدي المسلم (والمسلمة) الصلوات الخمس يومياً. ويبلغ عدد الركعات المفروضة في هذه الصلوات 17 ركعة على الاقل. وفي كل ركعة يقرأ المصلي (والمصلية) سورة الفاتحة، وفيها قول الله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين«.

فمن هم الذين أنعم الله عليهم ؟

ومن هم المغضوب عليهم ؟

ومن هم الضالون ؟

من الواضح في سياق السورة الكريمة ان الذين أنعم الله عليهم هم الذين هداهم الله الى صراطه المستقيم فالتزموا حدوده. وبالتالي يكون المغضوب عليهم هم الذين خرجوا على الصراط المستقيم وفرطوا بحدود الله. اما الضالون فهم الذين تشددوا وتطرفوا وغالوا حتى ضلوا، وخرجوا عن الصراط المستقيم وتجاوزوا بذلك حدود الله. وفي هذا تفسير لقول رسول الله صلى الله عليهم وسلم «ان هذا الدين (الإسلام) يُسْرٌ ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه «.

وهذا يعني ان المسرفين في التشدد والتنطح والغلو، هم الذين يتعدون حدود الله ويخرجون بذلك عن الصراط المستقيم فيضلّون السبيل. أما الذين فرّطوا بحدود الله وبتعاليمه وأضاعوها تنكراً وانكاراً لها وعن سابق تصور وتصميم، فهم المغضوب عليهم.

ان الحكمة من وجوب قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة، من كل صلاة، وكل يوم، هي لتذكير المؤمن بوجوب الالتزام بالصراط المستقيم، وبعدم الخروج منه حتى لا يكون من الضالين، وبعدم الخروج عليه حتى لا يكون من المغضوب عليهم.

غير ان الإسلام في القرن الواحد والعشرين يعاني من استقواء المنشقّين من المغضوب عليهم ومن الضالين، على جماعة المؤمنين المتمسكين بالصراط المستقيم.

لقد وردت كلمة الاستقامة ومشتقاتها 46 مرة في 34 سورة من سور القرآن الكريم.

والاستقامة التي يدعو اليها الإسلام مرتبطة بالإيمان ولاحقة له لأنها تعبّر عن الالتزام بالقيم والمبادئ التي يدعو اليها. فالقرآن الكريم يقول في الآية السابعة من سورة التوبة «ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة». فالإيمان هو المدخل الى الاستقامة. والاستقامة هي ثمرة الإيمان. والخروج عن هذا الطريق فيه ضلال والخروج عليه فيه غضب من الله.

ورغم ان جماعة المؤمنين تشكل الأكثرية الكبرى، فإن للمغالين صوتاً أكثر ارتفاعاً، وللمتنكرين دوراً أشد سلبية. وهاتان الجماعتان تقوّلان الإسلام ما لم يقله بشأن نفسه، وبشأن الآخر، الأمر الذي يسيء الى صورة الإسلام، وتالياً الى علاقاته مع الآخر غير المسلم.. وحتى الى علاقاته مع المسلم نفسه من مذهب آخر. ومن المذهب ذاته ! وفي حديث صحيح لرسول الله محمد عليه السلام يقول فيه:« لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه. ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه». ويتكامل ذلك مع حديث آخر للنبي رداً على سؤال: من هو المسلم ؟ يقول فيه:« المسلم من سلم الناس من لسانه ويده«.

من هنا فان العودة الى روح الإسلام السمح وليس المتسامح- تشكل المدخل الصحيح لمعالجة أزمة الثقة التي اهتزت وربت في العلاقات الإسلامية المسيحية. ذلك ان هذه العودة الإسلامية تتكامل مع عودة الى روح المسيحية أيضاً التي حددها المجمع الفاتيكاني الثاني 1965 « وثيقة نوسترا إيتاتي«.

فقد أعلن المجمع ولأول مرة، ليس فقط احترامه للمسلمين لأنهم يقولون بإله واحد ويحترمون المسيح وأمه ويؤمنون به نبياً، ولكنه أعلن أيضاً «ان الخلافات مع المسلمين تشكل خطيئة للإيمان بالله الواحد الذي خلق الناس جميعاً ودعاهم الى الخلاص والسعادة«.

لقد أرسى مجلس الأساقفة في المجمع الثاني القاعدة الأساسية التالية:

« تنظر الكنيسة بتقدير الى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحي القيوم، الرحمان القدير، الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم الى التسليم بأحكام الله، وإن خفيت مقاصده، كما سلّم لله ابراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالانتساب اليه. وأنهم، على كونهم لا يعترفون بيسوع إلهاً، إلا أنهم يكرمونه نبياً، ويكرمون أمه العذراء مريم، مبتهلين اليها أحياناً بإيمان. ثم أنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميع الناس بعدما يبعثهم أحياء. من أجل هذا يقدرون الحياة الأبدية، ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم خصوصاً«.

صحيح ان المسلمين والمسيحيين يتبادلون مشاعر هذه الأخوة ويعيشونها في لبنان بخاصة وفي الشرق بعامة، حتى قبل مجمع الفاتيكان الثاني، الا ان المجمع أكد عليها لاهوتياً، بحيث تكرست الأخوة الوطنية في الأخوة بالإيمان بالله الواحد.

ولأن هذه الأخوة ليست مجرد شعار، لا بد لها من ترجمتها في السلوك الفردي والجماعي، ولا بد من تجسيدها في الحياة العامة.

من هنا نفهم تأكيد الارشاد الرسولي (الفقرة 25 ص 20) على حق المسيحيين وواجبهم في الوقت ذاته، على «المشاركة التامة في حياة الوطن من خلال العمل على بناء أوطانهم « , وعلى أنه « ينبغي أن يتمتعوا بمواطنة كاملة لا أن يعاملوا كمواطنين، أو مؤمنين من درجة ثانية «.

خاتمة:

يستطيع المسلم في الشرق، وخصوصاً في لبنان، أن يستغني عن المسيحي في ممارسة شعائره الدينية وفي توطيد علاقته الروحية بالله. ويستطيع المسيحي أن يستغني عن المسلم بالقدر نفسه، وربما أكثر، ولكن لا يستطيع أي منهما أن يستغني عن الآخر في حياته. إن الحياة كما يقول مارتن بوبر ليست سوى اللقاء مع الآخر.

تحتاج العلاقة الانسانية، حتى تقوم على قاعدة الثقة، الى رعاية دائمة. وهي عملية شائكة ومعقدة لأنها تتعامل مع مشاعر وأحاسيس، ومع آمال وأماني. وعلى العكس من ذلك فإن تغذية الخوف واللاثقة عملية سريعة وبسيطة للغاية، يتراوح سلاحها بين أتباع نهج الغطرسة والاستعلاء والفوقية، وأسلوب التجاوز والتجاهل.

لا يتحقق الاطمئنان بالدعوة اليه، ولا تقوم الثقة بالإعراب عن حسن النوايا. الاطمئنان والثقة والمحبة هي كزراعة الصنوبر تحتاج الى وقت طويل من العمل والجهد ومن الرعاية والعناية حتى تعطي ثمارها. من أجل ذلك، فإذا كنا غير متفقين حول شؤون ما بعد الحياة، فأي مانع يحول دون أن نتفق حول شؤون حياتنا ومعاشنا ؟ بالنسبة الينا معشر المسلمين فان القضية محسومة شرعاً وهي ماثلة في المبادئ العامة التالية: « لكم دينكم ولي ديني «، و» لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً «، و « لا إكراه في الدين «، و»الحكم يومئذ لله «.

إذن ليست هناك مشكلة عقدية تحول دون التعايش المشترك، فمن الخطأ الفادح أن نحوّل اختلافنا العقدي الى خلاف حياتي. فالاختلاف ليس خلافاً. يمكن للاختلاف أن يقوم مع الاحترام والتفهم. ولكن الخلاف لا يولّد سوى البغضاء ورفض الآخر. نحن نكون معاً أو لا نكون. واللقاء لا يكون اساساً بين متشابهين. اللقاء يكون بين مختلفين. والحياة تتولّد وتتوالد بلقاء المختلفين. وما التلقيح في الطبيعة فكراً أو جسداً، لاهوتاً أو ناسوتاً، سوى نتيجة من نتائج لقاء التكامل و الحب بين مختلفين.

المهم أن نعرف ماذا نريد أن نحقق في حواراتنا والى أين نتجه في حياتنا الإسلامية المسسيحية المشتركة. ذلك انه لا توجد رياح مناسبة لمن لا يعرف الى أين يتجه.

() ألقيت المحاضرة في المؤتمر الإسلامي المقاصدي الأول في بيروت بتاريخ 20-6-2015

(1) سورة آل عمران الآية 19.

(2) سورة آل عمران الآية 85.

(3) سورة المائدة الآية 46.

(4) سورة الإسراء الآية 70.

(5) سورة آل عمران الآية 103.

(6) سورة المائدة الآية 47
 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,175,072

عدد الزوار: 6,938,815

المتواجدون الآن: 145