ركائز الصمود اللبناني أمام الانهيار الإقليمي

تاريخ الإضافة السبت 24 كانون الثاني 2015 - 6:03 ص    عدد الزيارات 678    التعليقات 0

        

 

ركائز الصمود اللبناني أمام الانهيار الإقليمي
طوني فرنسيس
ليس الخطاب السياسي عند الطوائف في لبنان خطاباً دينياً بالمعنى الشائع في الإقليم، فهو يقف عند حدود اليوميات ولا يغوص في الأصول كما يفعل آخرون في دول مجاورة، من منتمين الى مذاهب إسلامية، ينسبون الموقف السياسي اليومي إلى أبعاد تاريخية مذهبية، فيحولون -لضرورات النجاح في معاركهم- المطلب الآني إلى مهمة إلهية.
ويتقارب الخطاب المسيحي اللبناني مع الخطاب الرسمي للطوائف الأخرى، بل هو يتشابه معه في همومه وتفاصيله، ومرد ذلك ارتباط جميع العناصر المكونة للبنان بمرجعية تنظيمية واحدة قوامها الانخراط منذ زمن طويل في بناء البلد ونظامه السياسي على قاعدة الاشتراك والمشاركة ذات البعد الطائفي والمذهبي. تكرست هذه المرجعية في أعقاب أحداث عام 1860 الطائفية عندما أقر بروتوكول المتصرفية، الذي بموجبه أنشئ مجلس إدارة ضم ممثلين عن مختلف الطوائف المقيمة في جبل لبنان.
حافظت تلك الصيغة على حيويتها لدى انتقال لبنان من السيطرة العثمانية الى سلطة الانتداب الفرنسي وتحوله من متصرفية الجبل إلى دولة لبنان الكبير، وترسخت مع الميثاق الوطني (1943 ) لتتوطد بشكل دقيق في وثيقة الوفاق الوطني التي أقرها اتفاق الطائف (1989).
اقر الميثاق نظاماً تتشاركه الطوائف، وشددت وثيقة الوفاق التي أعقبته بعد 46 عاماً على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في السلطة والإدارة، بما يكرس الأسس التي انطلق منها نظام مجلس الإدارة في ستينات القرن التاسع عشر لجهة تمثيل الطوائف، مضافاً إليها تعديلات فرضتها تغييرات ديموغرافية وحاجات إصلاحية من ضمن النظام الطائفي التشاركي.
يطرح كثيرون الآن إمكان التسوية في سورية أو في العراق على قاعدة الاستئناس بالتجربة اللبنانية. وينطلق هؤلاء من تساؤلات يطرحونها لدى مقارنتهم تجربة لبنان في حروبه الأهلية و «الوطنية القومية»، مع تجربة البلدين في حروبهما المستعرة. ويصاب عراقيون وسوريون بالدهشة من قدرة اللبنانيين على الخروج من حربهم (1975- 1990 ) من دون انقلابات جذرية في تركيبة نظامهم الطائفي السياسي والاجتماعي على رغم الاقتتال المديد في ما بينهم وعلى أرضهم، بينما انهار المجتمع الأهلي في كل من سورية والعراق في سرعة صاروخية وتسبب انهياره في صدوع كارثية يصعب ردمها. ورداً على هذه الدهشة وتلك التساؤلات، تقدم العودة إلى التاريخ السياسي لنشوء النظام السياسي اللبناني في مقدماته الأولى (مجلس إدارة المتصرفية) نموذجاً مشرقياً في الانتقال من التناحر المجتمعي إلى الاستقرار السياسي استناداً إلى اقتسام للسلطة يحدد حصص الشركاء من جهة، ويطوع خصوصياتهم في سياق الانتظام الوطني العام من جهة أخرى.
حصل ذلك في جبل لبنان ولم يحصل مثله في بقية الأراضي العربية التابعة للسلطنة العثمانية التي بقيت موزعة على ولايات يحكمها باسم السلطان ولاة يعينهم الباب العالي مباشرة، بينما تولى متصرف مسيحي من رعايا السلطان حكم جبل لبنان يعاونه مجلس إدارة يمثل الطوائف الرئيسية (موارنة، دروز ، شيعة، سنة، روم أرثوذكس...) ينتخب أعضاءه شيوخ الصلح الذين كانوا مخاتير ذلك الزمان.
تلك التجربة كرست لاحقاً في نظام دولة لبنان الكبير برعاية الانتداب الفرنسي، فتحول مجلس الإدارة إلى مجلس للنواب تتقاسمه الطوائف والمذاهب، وهو ما تم اعتماده في عهد الاستقلال وأعيد التأكيد عليه في اتفاق الطائف بعد إجراء تعديلات في المحاصصة لا تمس جوهر المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
نظام المحاصصة هذا، على الرغم من حجم الانتقادات التي تعرض لها منذ قيامه، ولا يزال، رسم حدوداً لمطالبات زعماء الطوائف وأطماعهم، وجعل منازعاتهم تقف عند الحدود المعروفة سلفاً، فمهما تضخم طموح أي فريق وتعاظمت رغباته، فإن قدرته على إحداث تغيير في الأحجام لمصلحته، داخل النظام العام، تبقى مستحيلة، كونه سيحتاج إلى اتفاق عام لا يبدو متاحاً إلا في حالة الحوار والنقاش والاقتناع المشترك بضرورة إحداث تغييرات، وهذا مناخ يتوافر في حالة السلم ولدى اقتناع الجميع أو الغالبية العظمى، بالحاجة إلى التطوير والتغيير، وإلا على هذا الفريق «المنتفخ» أن يشن حرباً اجتثاثية على الطوائف الأخرى لفرض وقائع جديدة على الأرض، متشبهاً بـ «داعش» أو بإسرائيل أو بأي سلطة قامت على العنصرية الدينية أو... الإتنية، وهذا ما يبدو مستحيلاً ضمن الموازين الداخلية والدولية التي تحكمت بنشوء الكيان اللبناني الذي نعرف.
إضافة إلى تركيبته الداخلية ونظام هذه التركيبة المعتمد منذ نحو 150 عاماً، قام الكيان اللبناني نتيجة المساومات الأخيرة حول تطبيق اتفاقية سايكس– بيكو التي بموجب روحيتها رسمت حدود سورية والعراق والمشرق العربي في ما يسمى بلاد الشام. وعلى مدى عشرات السنين، اقتنعت المجموعات اللبنانية بأهمية الركيزتين اللتين قام عليهما بلدها: الأولى نظام سياسي القائم على المحاصصة الطائفية المنظمة في مقابل المسارات التي انحدرت إليها الأنظمة القومية العلمانية المزعومة المحيطة، والثانية تسوية سايكس بيكو التي سمحت برسم حدود لدول انهار بعضها نتيجة الغزو والاختلالات الداخلية (سورية والعراق نموذجاً) وصمد بعضها الآخر على رغم الغزو (لبنان نموذجاً)، حيث حل التركيب المجتمعي عامل قوة مبقياً على عمل جهاز الدولة كحلقة وصل، ومكرساً نظرية جديدة في علم السياسة مفادها أن قوة لبنان ليست من قوة دولته بقدر ما هي في قوة اجتماعه.
ركيزتا الكيان واكبهما وسبقهما ما تمكن تسميته تبلور»الشخصية اللبنانية «الناتجة من تفاعل حياتي داخلي عميق بين مختلف الفئات أتاح لها الخروج بقناعات مشتركة في وجه مخاطر مشتركة. وفي الآونة الأخيرة، حاول باحثان من خلفيات مختلفة الإضاءة على هذه «الشخصية»: الأب ميشال العويط، الكاهن منذ نحو ستين سنة أمضى منها نحو ثلاثة عقود أميناً لأسرار البطريركية المارونية في لبنان، في كتابه «وصيتي إلى الموارنة»، وكريم مروة، الباحث والمناضل في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني منذ أكثر من 60 عاماً، في كتابه الأخير: «ملامح الشخصية اللبنانية في سير وإبداعات المثقفين اللبنانيين».
يلتقي الكاتبان من دون سابق معرفة أو تخطيط عند فكرة أساسية هي أن لدى اللبنانيين، بفئاتهم المتنوعة، تاريخاً مشتركاً صنعوه على مدى عقود وقرون. يذهب الأب عويط في «وصيته» إلى أبعد مما ذهب إليه مؤرخو الطائفة المارونية الآخرون، فيعلن أن كتابه «ليس تاريخاً، بل هو أضواء على مسيرة شعب عرف كيف يعيش، ما يشبه إلى حد بعيد حياة المسيحيين الأولين»، ليخلص إلى الجزم أن أرض لبنان «عبقت طويلاً ببخور الكتب المقدسة والقيم الإنسانية، بحيث صارت الديانات في صلب تكوينه ومن خاصياته الملهمة. وقد تحقق العيش معاً عند اللبنانيين، وارتقى عند بعضهم إلى حدود التآخي، فبرزت العادات الحلوة، كالتسامح واحترام الجار والانفتاح». ومن هذه النقطة، يرى العويط أن «الميثاق الأول والأساسي للجماعات اللبنانية تمثل في عيش القيم والمبادئ التي طبعت جبل لبنان التاريخي وإنسانه، وانتقلت من الجبل إلى المدن والمناطق الساحلية، وهو شأن سابق للدول وللسياسة بمفهومها الحديث».
في هذا السياق، يصبح المطلوب من الموارنة، وفق العويط، الوحدة في المفهوم التاريخي، والعودة راهناً إلى نصوص المجمع البطريركي الماروني وإلى الإرشاد الرسولي الخاص بلبنان والآخر الخاص بمسيحيي الشرق الأوسط، «فقد أظهر لنا التاريخ أنه كلما استعادت الجماعات اللبنانية طبائعها في العيش معاً، الشبيهة بكينونة البيت المعقود، استعاد البنيان قوامه وعافيته وقدرته على مقاومة الأخطار وتقلبات الأزمنة والسياسة»... فالتاريخ الذي عاشته الجماعات الدينية «صار دعامة لبناء الوطن الدولة».
في خلاصات الأب عويط أن كل الذين تمسكوا بلبنان وجباله وطناً لهم، يتشابهون في أحلامهم ومخاوفهم، ما يسمح بالقول بشخصية لبنانية حاول كريم مروة البحث عنها في نتاج نحو 30 شخصية ثقافية لبنانية على مدى قرن.
يعتبر مروة أن ربطه المتعمد بين تلك الشخصيات «ليس إلا استكمالاً لما أنا منشغل فيه منذ عقدين من البحث في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر عن العناصر الأصلية والوافدة التي ساهمت في تكوين الشخصية اللبنانية في تعدد وتنوع مكوناتها وفي تعدد وتنوع سماتها». ويجزم بأن «التعدد الديني والإتني المرافق لتكون لبنان في المراحل المختلفة من تاريخه (...) هو الذي مكَّن لبنان من أن يكون مركز تواصل وتفاعل...»، ويدعو اللبنانيين إلى «حماية نظامهم الديموقراطي الجمهوري البرلماني التعددي، في ظل دولة مدنية ديموقراطية حديثة...».
لدى الباحثَيْن، رجل الدين والمفكر اليساري، همٌّ مشترك، فهما بعد ستة عقود من تجارب مميزة وخاصة، يبحثان في تاريخ لبنان عن النقاط الجامعة ويجدان أنها كثيرة وكافية. الاثنان يتمسكان بالكيان والتعدد، أي بتقسيمات مطلع القرن الماضي وبالتجربة الديموقراطية البرلمانية العميقة الجذور، المتعددة الأصول، لكنهما يخشيان عليهما.
فعلياً هناك ما يثير الخوف على التجربة اللبنانية، فالخوف على الدولة والكيان يتأتى من مشاريع خارجية نقيضة لتفاهمات سايكس بيكو بدأت مع قيام إسرائيل... ثم في العقد الأخير مع توسع النفوذ الإيراني عبر تنظيم الميليشيات المذهبية والعابرة للحدود من العراق إلى لبنان وبالعكس، وبلغت هذه المشاريع ذروة جديدة مع قيام دولة «داعش» التي لا تعترف بأي حدود وتزعم السعي إلى عودة الخلافة في بلاد المسلمين.
إزاء هذه التحديات، ستكون التجربة اللبنانية في بعديها التشاركي التعددي ونظامها البرلماني، أمام اختبار قاس تصعب مواجهته بنجاح من دون تصد صارم من تلك «الشخصية اللبنانية» التي بلورتها الأزمات.
* صحافي لبناني من أسرة «الحياة»
 

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East..

 السبت 11 أيار 2024 - 6:24 ص

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East.. Armed groups aligned with Teh… تتمة »

عدد الزيارات: 156,658,463

عدد الزوار: 7,037,560

المتواجدون الآن: 66