السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل

تاريخ الإضافة الإثنين 8 أيلول 2014 - 6:37 ص    عدد الزيارات 777    التعليقات 0

        

السوريون.. الحياة تحت رحمة القنابل
دمشق تنام مبكرا.. وسكانها يحلمون بالكهرباء والماء
بيروت: «الشرق الأوسط»

«ابني على الخط.. أبلغني بأن مياه الخزان خلصت.. المشكلة أن المياه مقطوعة منذ ثلاثة أيام». بهذا الحوار انتهت سهرة نيرمين مع صديقاتها، والتي كن خططن لها قبل أسبوع، للذهاب إلى أحد المقاهي في حي أبو رمانة لتناول القهوة والنرجيلة. لم يخرجن للاستمتاع بمساء دمشق الرطب منذ فترة طويلة.. لكن مشكلة المياه وغيرها من المشاكل اليومية كانقطاع الكهرباء، وصعوبة التنقل، والانفجارات المتتالية، جاءت لتنغص عليهن اللقاء، فعدن باكرا كل واحدة إلى منزلها للانخراط في حلها بعد أن فشلن في الهروب منها ولو لبعض الوقت.

هي المشكلات التي باتت جزءا لا يتجزأ من حياة السوريين عموما. يقول «نزار ت»: «لقد اعتدنا عليها حتى بتنا لا نعرف العيش خارجها». فهو يضطر للنوم مبكرا للاستيقاظ ليلحق بموعد وصول المياه، ويشغل محرك استجرار المياه لملء الخزان، فإذا حصل وتأخر في السهر قد تحرم عائلته في اليوم التالي من المياه. ويلفت إلى أنه في حياته كلها لم يكن يوما ملتزما بمواعيد نومه واستيقاظه كما هو الآن في ظل انقطاع المياه والكهرباء.

أما عن المناسبات العامة والخاصة مثل طقوس رمضان والعيد، والزواج والأفراح عموما، فيهز رأسه ساخرا بأسف ويقول «نسيناها منذ ثلاث سنوات».. ويتابع أن جاره أخبره بصدور فواتير الهاتف قائلا «انتبه وأنت تقرأها، فقد تفسد عليك يومك»، ثم يؤكد «كل أسباب إفساد الحياة تكالبت علينا». وعن كيفية قضاء الحاجيات من الأسواق يقول «العام الحالي هو الأفقر في كل شيء منذ ثلاث سنوات، فبالكاد أفطر مع عائلتي المتوافر لدينا من طعام وشراب، ثم يستلقي كل واحد منا على أريكة مستسلما للصمت وكأننا نمارس رياضة اليوغا، فإذا حصل وجرى حديث فيكون شجارا حول توزيع المهام في البيت مثل مراقبة خزان المياه، وتأمين بنزين للمولد، وشراء شموع وتبديل أنبوبة الغاز، ودفع فواتير الكهرباء والنت.. إلخ. عدا ذلك فإننا نصارع الضجر والانتظار في حال انقطاع الكهرباء، وفي حال توافرها ننصرف إما إلى التلفزيون أو الإنترنت».

«رياض ن»، شاب مقبل على الزواج لكنه متردد خشية أن يزيد إلى حياته أعباء جديدة. يقول «نسينا السهر خارج المنزل.. وتناول الطعام في المطاعم منذ سنوات، بسبب غياب الأمن. في المناسبات مثلا خاصة رمضان عام 2011.. أسقطنا الحلويات واللحوم والنقل والموالح والمسليات، وكل ما له علاقة بالرفاهية، كما ألغينا من قاموسنا احتفالات الأعراس، واختزلت تجمعات العزاء في ساعتين وقت الظهيرة، وبات توفير ما يصرف على الرفاهية يذهب إلى إعانة النازحين والمشردين من أهلنا ومعارفنا.. وتقاسم الرغيف أحد أبرز همومنا. وفي رمضان عام 2012 ألغينا الأطباق المنوعة بسبب الغلاء الفاحش، ودعوات الأهل الأصدقاء، ولم يعد لدينا ما يجعلنا نفكر في تقاسم الرغيف والمنزل مع أهلنا المشردين، فقد أصبحنا جميعنا محتاجين، نحلم بالسفر واللجوء والنزوح. العام الحالي أضفنا إلى قائمة الممنوعات قائمة إجبارية.. يتحكم فيها انقطاع المياه والكهرباء». وفي رمضان 2015 قد تتحقق النكتة الرائجة في سوريا اليوم عن «التمني بأن يكون شهر رمضان مثل المونديال مرة كل أربع سنوات ولا تشترك فيه سوريا».

يعيش سكان دمشق أزمة مياه خانقة اشتدت منذ أشهر مع حلول شهر رمضان. تقول «ناديا م» إن «أزمة المياه أنستنا أزمة الكهرباء التي اعتدنا عليها منذ ثلاث سنوات، وتمكنا إلى حد ما من إيجاد بدائل» سواء بمولدات كهربائية أو بطاريات ساكنة تسد بعض الاحتياج وليس كله كتشغيل الإنارة والتلفزيون.. أما «البراد فقد أصبح نملية (خزانة طعام بدائية)». وتعتبر ناديا انقطاع المياه «كارثة» لعدم القدرة على توفير بدائل سهلة وبالأخص في المباني العالية، حيث لا تصل المياه إلى الطبقات الرابعة والخامسة إلا بشق الأنفس، مشيرة إلى أن هذا العام يمر قاسيا جدا بسبب انقطاع الماء والكهرباء، مما اضطرها إلى جلب طعام جاهز من الأسواق على غير عادتها، كما ألزمت أولادها بعدم استخدام صحون وأدوات طعام كي لا يتراكم الجلي. وتقول «تناولنا الطعام في المنزل على ضوء الشموع من دون ملاعق وشوك وسكاكين وصحون وكأننا في رحلة إلى صحراء قاحلة».

لكن هذا الحل المؤقت الذي لجأت إليه عائلة «ناديا م» لا يمكن أن يكون حلا دائما لارتفاع كلفته، فليس من السهل الاعتماد على الطعام الجاهز يوميا لكلفته الباهظة قياسا بمستوى الدخل المتدني، لغالبية السوريين الذين بالكاد يؤمنون قوت يومهم وبالأخص العائلات الكبيرة. ويشير أبو عمار إلى حل آخر لكنه أكثر كلفة وهو الخروج إلى المطاعم، فهو مكتف ماديا إلى حد ما، ولكن لم يعد بإمكانه ارتياد المطاعم مع عائلته كالسنوات السابقة، فكل شخص يكلف وسطيا ألفي ليرة في مطعم عادي، أي أن عائلته المؤلفة من ستة أفراد ستحتاج إلى 12 ألف ليرة كأقل تقدير. وقال إن بإمكانه ارتياد المطعم مرة أو مرتين خلال الشهر، لكن بالتأكيد ليس أكثر، لذلك قرر مع عائلته الذهاب مرتين خلال الأسبوع إلى متنزه شعبي في منطقة الربوة غرب دمشق لشرب الشاي والقهوة والتمتع بالهواء البارد عندما تكون الكهرباء مقطوعة، كحل لتجاوز الأمسيات الصعبة في المنازل.

وتواجه الحكومة السورية واحدة من أعقد المشكلات الخدمية التي تتعرض لها منذ ثلاث سنوات، ومع أن أزمة المياه ليست مستجدة ولا وليدة الظروف الأمنية الراهنة، فإن الأحداث الدامية فاقمتها إثر استهداف خطوط تغذية الكهرباء على عمليات ضخ المياه، والتي تزامنت مع حالة جفاف لم تمر مثلها منذ عام 1932، بالإضافة للمشكلة الأهم والأكبر وهي غياب التخطيط والفساد في إدارات الدولة عبر العقود الماضية التي أنهكت البنية التحتية وراكمت مشكلاتها في قطاع الخدمات كالمياه والكهرباء والاتصالات والصحة وغيرها، لتتفجر الأزمات واحدة تلو الأخرى في السنوات الثلاث الأخيرة تحت وطأة القصف والاشتباكات العنيفة.

وبينما تختلط أسباب انقطاع الكهرباء والماء بين تقنين تتبعه الحكومة بسبب الشح وأعمال هجومية تستهدف محطات الكهرباء والماء، أعلنت الحكومة السبت الماضي أن «محطات توليد المنطقة الجنوبية توقفت عن العمل بسبب قطع إمدادات الوقود عنها نتيجة قطع خط الغاز المغذي لها في منطقة شرق جيرود في ريف دمشق من قبل المجموعات المسلحة». وقالت وزارة الكهرباء في بيان صحافي إن «توقف هذه المحطات أدى إلى زيادة ساعات تقنين الكهرباء في المنطقة الجنوبية، وإن وزارة النفط والثروة المعدنية تعمل على معالجة الموضوع». أما مؤسسة المياه والصرف الصحي في دمشق وريفها فلم تفلح تطميناتها وإعلانها عن مشاريع لحل أزمة المياه في تبديد القلق الذي ازداد في الأسبوع الأخير، وبحسب تصريحات إعلامية لمدير عام مؤسسة المياه والصرف الصحي المهندس حسام حريدين فإن الحكومة بدأت مشروع المنطقة الغربية، وهو رديف لريف دمشق للمساعدة في حل مشكلة ريف دمشق في المنطقة الغربية على مرحلتين تؤمن المرحلة الأولى منه 800 لتر في الثانية، والمرحلة الثانية تؤمن 1430 لتر في الثانية.. و«إنه يتم العمل حاليا على إحداث توازنات بين الريف والمدينة ضمن إطار وجود عدالة في تأمين كميات المياه للجميع في مختلف المناطق»، وإن «وضع الريف متابع بشكل جيد».

وتعاني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في ريف دمشق من تنامي ضغط الاستهلاك بسبب نزوح السكان من المناطق المجاورة الساخنة، مما يجعل تأمين كل الخدمات صعبا جراء الاختلال الذي أصاب التوزع الديموغرافي. وحاول حريدين طمأنة مواطنيه إلى أن «وضع مياه الشرب مستقر خلال المرحلة المستقبلية».‏ لكنه لم يوضح كيف سيتم تجاوز الأزمة المتفاقمة حاليا، بل انصرف للحديث عن إنجاز دراسات متعلقة بمصادر المياه الدائمة في المنطقة العربية، و«عزم» الحكومة تنفيذ مشاريع آبار تكفي الزيادة السكانية لنهاية 2040، وأن «الآبار المقرر تنفيذها توفر مياه الشرب بغزارة 1400 لتر/ الثانية، وهي كافية لتأمين مياه الشرب لنحو 14 تجمعا سكانيا في ريف دمشق»، وإنه تم البدء في استثمار بئرين في منطقة الريمة في جبال الحرمون توفران 500 متر مكعب ويستفيد من المصدرين الجديدين المشتركون في كل من جديدة عرطوز وصحنايا.

كلام مدير مؤسسة المياه إن دل على شيء فهو يدل على أنه لا انفراج قريبا في أزمة المياه، إن لم تكن متجهة لمزيد من التفاقم، فثمة مناطق في ريف دمشق وأحياء أطراف العاصمة تغيب المياه عنها لعدة أيام، بل إن أحياء وسط العاصمة راحت تعاني من المشكلة ذاتها. ويشير «نزار ت» إلى أنه تمكن إلى حد ما من التغلب على مشكلة الكهرباء بأن تبادل مع جيرانه خطوط الكهرباء و«النت»، بحيث يعطيهم من منزله في حال كانت متوافرة عنده ومقطوعة عندهم، والعكس بالعكس، بحيث أصبحت مهمته طوال اليوم تبديل قواطع توصيل الكهرباء، لكن ليس بإمكانه فعل ذلك بالنسبة للمياه. ويقول «بالإمكان شراء مياه للشرب لكن ماذا بخصوص الحمام والمطبخ؟ إنها كارثة».

يشار إلى أن مناطق واسعة من ريف دمشق ذات الكثافة السكانية العالية ازدهرت فيها تجارة بيع المياه في السنوات العشر الأخيرة، كبلدات صحنايا وأشرفية صحنايا وجرمانة والديماس وغيرها من المناطق، لكنها لأول عام تنشط داخل العاصمة. رغم أن تقنين المياه بدأ منذ أكثر من أربعة عشر عاما في أحياء الأطراف، كالعباسيين والقابون وبرزة والحجر الأسود والقدم وكفرسوسة والمزة، فإن التقنين لم يكن يتسبب في أزمة خانقة كالأزمة الراهنة، إذ لم يك التقنين يتجاوز بضع ساعات باليوم يمكن تعويضها من خزانات المياه، التي تملأ بواسطة محركات استجرار مياه، وبالأخص سكان الطبقات العلوية التي تعتمد عليها الغالبية العظمى من السوريين لتأمين المياه، ومع تفاقم الأزمة هذا العام ازدهرت تجارة المياه، التي تباع بالمتر المكعب بسعر تجاوز الألف ليرة سورية (الدولار يعادل 170 ليرة) وهو مبلغ باهظ قياسا لسعر المياه الرسمي.

وذلك بينما تغيب أي بارقة أمل بقرب انتهاء الحرب والفوضى الجارية في سوريا. فمعظم السوريين في الداخل باتوا على قناعة بأن الحرب لن تتوقف قبل عشر سنوات على أقل تقدير، أما عودة الحياة إلى سابق عهدها فلن تكون قبل خمسين عاما. لذا يقول «نبيل د» إنه لم يعد يشغل باله موعد انتهاء الحرب، وما يشغله الآن كيف يمكنه البقاء والتغلب على المشكلات الحياتية اليومية التي لا تنتهي. ويقول بأسف «أمس سرقت وأبنائي مياها من خزان الجيران. كنت مضطرا.. فعلت هذا خلال شهر رمضان!! لأن الضرورات تبيح المحظورات. هكذا نبرر انعدام الأخلاق.. لا بأس إنها أخلاق الحرب».

التغلب على الظروف القاسية بات الشغل الشاغل لمعظم السوريين في المناطق الآمنة الخاضعة لسيطرة النظام، والتي بدت الأسبوع الماضي في حالة استرخاء قياسا لفترات سابقة، مع قيام النظام في الأسبوع الأول من رمضان بإزالة عدد من الحواجز من شارع المجتهد وصولا إلى ساحة كفرسوسة، وهو الذي يمر بمقار أمنية كبيرة ودوائر حكومية، ومن شارع بيروت عند جسر الرئيس حتى ساحة الأمويين، وهو من أكثر المناطق حساسية لقربه من مبنى نادي الضباط ومبنى هيئة الأركان العامة الذي تعرض لتفجير في عام 2012، بالإضافة لشوارع أخرى. بالإضافة لعودة الناس إلى ارتياد المتنزهات في مناطق ريف دمشق الخاضعة لسيطرة النظام وعودة جزئية للحركة إلى شوارع العاصمة في ساعات متأخرة من الليل، مع مشهد الجنود المدججين بالسلاح على الحواجز في حالة استرخاء يتابعون برامج رمضان عبر أجهزة الموبايلات أو يجرون دردشات (واتس أب) مع ذويهم وصديقاتهم، ناهيك عن مشاهد أخرى مستجدة باتت رائجة لشبان عساكر مدججين بالسلاح يتمشون مع صديقاتهم في الحدائق أو يختلون تحت ظلال الأشجار ليلا. فيما يستلقي المشردون من منازلهم في الحدائق وعلى الأرصفة بعد يوم حار وطويل بانتظار انفراج لا يبدو أنه قريب.. مع ترداد دائم لقول «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت.. وكنت أظنها لن تفرج».

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,593,424

عدد الزوار: 6,997,171

المتواجدون الآن: 60