ساحة الباستيل وأعلام العرب

تاريخ الإضافة الجمعة 11 أيار 2012 - 5:23 ص    عدد الزيارات 415    التعليقات 0

        

ساحة الباستيل وأعلام العرب

بقلم سلام الكواكبي

 

الحكم الفعلي لم يقع بعد في ايدي اليسار الفرنسي بالمعنى التنفيذي فرئيس الجمهورية الجديد سيسعى الى حشد القوى للانتصار في الانتخابات التشريعية في حزيران المقبل درءا لصعود اليمين، واليمين المتطرف.

يوم السادس من أيار الجاري، عاشت ساحة الباستيل في باريس احتفالات امتدت حتى الصباح لمناسبة فوز فرنسوا هولاند، بالرئاسة الفرنسية بعد الجولة الثانية من الانتخابات، والتي شارك فيها أكثر من 80 في المئة من الناخبين المسجلين. وفرح بعض الفرنسيين ممن انتخبوا هولاند، حتى الثمالة، وحزن الآخرون الذين أملوا باستمرار نيكولا ساركوزي.
 وبعد أن “ذهبت السكرة وجاءت الفكرة”، ينتظر الجميع البرامج الحقيقية، وليس الانتخابية. سيُحاسب 25 في المئة من الناخبين الذين اختاروا هولاند رئيسهم الجديد على التزامه بمسارين أساسيين في خطاب الانتصار: العدالة والشباب. فالعدالة القضائية ليست في مأزق بالتأكيد في هذه البلاد ولا تدخلات سياسية واضحة في مساراتها، ولا هي تعاني من فساد مؤسسي، وهي من دعامات الديموقراطية الأساسية. أما العدالة الاجتماعية، فقد عانت كثيرا من السياسة الاقتصادية النيوليبرالية النسبية ومن الإدارة اليمينية للأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا.
 لماذا النيوليبرالية النسبية؟ لأن فرنسا تتمتع بنقابات عمالية ومهنية ثقيلة الوزن وذات فاعلية لا لبس فيها في رسم المسار أو تصحيح انحرافاته. وبالتالي، فمن الصعب على الحكومات النيوليبرالية أن تمارس بحرية قصوى منهجها المسيء للعدالة الاجتماعية. في المقابل، لا يستطيع اليسار أن يلتزم، مهما صدق، بمبادئ العدالة الاجتماعية الشاملة، وذلك لالتزامه بإدارة بلاد تعتبر جزءا من منظومة اقتصادية رأسمالية على أقل تقدير، تحيط بها، وتتعامل معها، وتستند إليها، في بناء إطار اقتصادي أوروبي متجانس نسبياً. لذا يُعتبر الحكم في هذه الظروف كعمل صائغ المجوهرات بدقته وحساسيته ومقدار الخسائر التي يمكن أن تنجم عن الخطأ في ممارسته.
من جهة أخرى، تعاني فئة الشباب في المجتمع الفرنسي من أسوأ نتائج الأزمة الاقتصادية، وذلك في مجالات عدة. فقد قامت الحكومة السابقة بتقليص الاعتمادات التربوية نسبيا وأعادت رسم الخريطة التعليمية وكانت لها مواقف بعيدة عن دعم العاملين في القطاع التربوي باعتبارهم خزان أصوات لليسار تاريخياً. وقد تأثرت المدارس عموماً بهذه السياسة الحذرة، والتي قلّصت من الاهتمام بهذا القطاع الأساسي في الدولة الحديثة. إضافة إلى هذا الجانب، قام اليمين بسنّ تشريعات تُدير العملية البحثية بطريقة اقتصادوية. وصار على المختبرات البحثية أن تدعم برامجها من خلال التشاركية مع القطاع الخاص العامل في مجالاتها.
إضافة إلى المدارس ومختبرات الأبحاث، فقد عانت الجامعات أيضاً من نقص في الاعتمادات، وفي فرض استقلاليتها المالية مما يدعوها إلى رفع أجور الانتساب إليها، وهي التي كانت تُعرف عالمياً بمجانيتها. وعانى التكوين المهني للشباب من السياسات الاقتطاعية نفسها.  ولكن الحكم الفعلي لم يقع بعد في أيدي اليسار بالمعنى التنفيذي، فرئيس الجمهورية الجديد، سيسعى ومحازبيه إلى حشد القوى للانتصار في الانتخابات التشريعية في حزيران المقبل، درءاً لصعود اليمين واليمين المتطرف الذي شمّر عن ساعديه وربما سيدخل البرلمان لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة. تلك الانتخابات هي التي ستمنح هولاند إمكان الارتياح إلى تشكيل حكومة تضم حلفاءه من الخضر أو من دعموه دون اقتناع ببرنامجه الانتخابي من ائتلاف اليسار. وإن كانت الغالبية في البرلمان المقبل ليست في طرفه، فستعود فرنسا إلى حكومة التوافق أو التعايش التي عرفتها بين شيراك وجوسبان، وستدار الأمور الداخلية فيها بقصور وتردد.
هناك مفاجآت عديدة، وليست بالضرورة سارة، ستحملها الأسابيع المقبلة خصوصاً في ما يتعلق بصعود اليمين المتطرف، وسيشهد اليمين التقليدي عملية اعادة بناء وصعود أسماء جديدة إلى المشهد السياسي إن التزم فعلاً ساركوزي بما أعلنه فور إعلان النتائج بأنه سينسحب من العمل العام. وهذه العملية قد تُقصي الديغوليين التقليديين ليجدوا أنهم اقتربوا أكثر من يمين الوسط وتتعزّز علاقات جزء آخر من اليمين مع متطرفي الجبهة الوطنية التي ستكون رئيستها مارين لوبين، اللاعب الأساسي على الساحة السياسية. لوبين هذه، تعتبر الرابح الأكبر من خسارة ساركوزي بحيث تُعيد تقديم خطاب يميني شوفيني عنصري واضح بعيداً عن خطابات اليمين التقليدي، حماّلة الأوجه.
أما في ما يخص السياسة الخارجية، فلا يغيب عنّا بأن فرنسا دولة مؤسسات وبأن تقنيي السياسة الخارجية لا يتغيرون مع تغير الرؤساء، مع أن شخصية القائمين على الشؤون الخارجية تختلف كما طرائق عملهم وطرائق التعبير عنها، إلا أن المضمون هو في الأساس التعبير عن مصالح الدولة الفرنسية. ليس من المحتمل أن يأتي أوبير فيدرين، إلى المنصب إلا بمفاجأة على الرغم من مساهمته الفاعلة إبّان الحملة الانتخابية في تقديم المشورة على الصعيد الخارجي. أما لوران فابيوس، رئيس الوزراء السابق، فاسمه يتردد كثيراً، وربما كان هذا الأمر أكثر إيجابية خصوصاً للعرب الثائرين أو الساعين إلى حريتهم من أنظمة الاستبداد. هذا بالتأكيد ليس انتقاصاً من حرفية وعمق ثقافة فيدرين ودوره في إدارة ملفات عالمية عدة، ولكنه يتعلق بموقفه البراغماتي من مسألة الحقوق والحريات وعلاقتها بإدارة السياسة الخارجية، التي وإن اتفق الجميع على أنها تُجانب النفاق، إلا أنها تهمّش بطريقة مستفزة الجانب الإنسانوي في العلاقات الدولية.
بعد انطلاق احتفالات ساحة الباستيل، هتف لي صديق فرنسي يميني مصدوماً وشاجباً لظهور أعلام الثورات العربية بين الجموع وقال لي بالحرف الواحد: هل تعتقد بأنه سيكون مقبولاً أن يرفع السوريون أو المغاربة أو الجزائريون في بلدانهم أعلاماً فرنسية في احتفالات انتصاراتهم الانتخابية؟ إن أردت أن أجيبه، يمكنني اعتبار أن ما حصل ويحصل هو جزءٌ من ثراء الحضارة الفرنسية التي تعترف بمجمل مكوناتها وبمجمل المؤمنين بقيم الحرية والعدالة والمساواة التي وضعتها الثورة الفرنسية. ولاعتبرت أيضاً بأن هذه الأعلام هي جزء من الالتزام بقضايا الآخرين والذي تميّزت به فرنسا مجتمعاً مدنياً على الأقل. وربما قلت له إن المقيمين في باريس، من هذه الدول يشاركون الآخرين باحتفالات الديموقراطية في محاولة للمماثلة النظرية. ولكنني ابتسمت مبتعداً عن الجدال ومستمتعاً برؤية الأعلام السورية والتونسية والمصرية وغيرها ترفرف في ساحة الباستيل ومتفائلاً بأن يكون الرمز هو جزءٌ من صناعة التاريخ.

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,289,256

عدد الزوار: 6,985,983

المتواجدون الآن: 61