الإسلاميون والحكم: استمرار الأسئلة الصعبة

تاريخ الإضافة الثلاثاء 2 كانون الأول 2008 - 7:52 ص    عدد الزيارات 848    التعليقات 0

        

خالد الحروب    

نظم معهد أبحاث السياسات العامة في لندن, والذي يُعتبر من مراكز البحث والتفكير المهمة في بريطانيا مؤتمراً الأسبوع الماضي حول الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ضم ممثلين عن بعض تلك الحركات ومختصين وباحثين في شؤونها. النقاشات التي دارت في الجلسات لم تأتِ بجديد بقدر ما أكدت دوام شرعية الأسئلة المطروحة إزاء إشكالية «الإسلاميين والحكم» وغموض الإجابات التي يقدمها أغلب الإسلاميين. مرد الكثير من هذا الغموض إلى نزوع معظم المتحدثين بإسم تلك الحركات إلى تقديم مواقفهم بشكل لا يقبل مفاهيم الديموقراطية والآخر وحقوق الإنسان والحريات العامة كما هي مطروحة في التجربة الغربية والليبرالية، بل يبدون تحمساً لها بشكل لا يعبر حقيقة عن جوهر الموقف الفعلي, أو الممارسة العملية على الأرض كما هي مرئية ومُشاهدة. الإسلاميون الذين يوضحون موقفهم بجلاء ومن دون مواربة إزاء أي قضية من القضايا الفكرية المطروحة هم أكثر إغناء للجدل والنقاش من أولئك الذين يتوافقون ظاهرياً ولفظياً مع تلك الطروحات لكن يتناقضون معها في الممارسة الميدانية. يمكن هنا التوقف عند بعض الاسئلة التي ما تزال تلح على الأجندة الحركية الإسلامية في تنظيرها لمسألة الحكم والدولة الوطنية والديموقراطية.
السؤال الأول هو مسألة السعي نحو تحقيق شعار «توحيد الأمة الإسلامية» مقابل «بناء الدولة الوطنية». من ناحية فكرية وأيديولوجية تأسس معظم إن لم يكن كل الحركات الإسلامية على واحدة من المقولات التكوينية وهي أن الأمة مجزأة ويجب توحيدها. واحتل شعار «الوحدة» رأس الأولويات (اللفظية) والإعلانات المتكررة وقلب الأدبيات المنشورة. ونعرف أن انهيار الدولة العثمانية كان أحد الحوافز الكبرى وراء تأسس «الإخوان المسلمين» في مصر عام 1928، بهدف إعادة بناء الدولة الإسلامية الموحدة والمعبرة عن المسلمين. لكن التنظيمات والحركات الإسلامية المخلتفة وبعيداً عن شعار توحيد الأمة الإسلامية نمت وتطورت عبر العقود التي تلت التأسيس في إطار الدول الوطنية التي تنتمي اليها وانشغلت بوعي أو من دونه بالأجندات المحلية وسعت للسيطرة على الحكم في بلدانها. وباستثناء «حزب التحرير» و «القاعدة» و «جماعة التبليغ»، فإن بقية الحركات الإسلامية تقريباً تتصف بصبغة محلية بحتة وتنشغل بأجندة وطنية/ قطرية على حساب أي أجندات فوق قطرية. في البلدان التي تشارك فيها حركات إسلامية في العملية السياسية سواء في البرلمان أو الحكم تقوم بالمساهمة عملياً في «بناء دولة التجزئة» وتقويتها, وهي الدولة التي تحظى بأكثر قدر من الاسترذال في أدبيات هذه الحركات. وحتى تلك التي لا تُساهم في العملية السياسية فإن قصارى طموحها هو أن يتم الاعتراف بها من قبل النظام القائم وإدراجها في ما هو قائم. معنى ذلك أن «بناء دولة التجزئة» هو الذي يشغل بال هذه الحركات حتى لو لم تدرك ذلك. لكن الرد المتوقع على هذه النقطة يقول إن بناء الدول الوطنية بحسب الأجندة الإسلامية، أي بناء دول إسلامية، لا يتناقض مع المشروع الأكبر وهو توحيد الأمة الإسلامية، بل يقود إليه. وعلى ذلك فالمشروع الأممي الإسلاموي يقوم على بناء الوحدات المتفرقة على أساس إسلامي بشكل يجعل توحيدها مستقبلاً تحصيل حاصل. طبعاً تفوت أشياء كثيرة على مثل هذا التنظير الطوباوي المؤدلج، ليس أقلها سذاجة الافتراض بأن توحيد تلك الدول، فيما لو قامت بحسب ما ترتأيه هذه الحركات، سيكون أسهل من توحيد الحركات نفسها. فهذه الحركات مختلفة اختلافاً كبيراً فيما بينها، ويصعب تخيل وجود وحدة حقيقية بينها حتى تلك المنتمية الى مدرسة فكرية واحدة, كتنظيمات «الإخوان المسلمين» مثلاً. وهذا الافتراق الحالي يتم وهذه الحركات لا تسيطر على دول وحكومات ولا تتذوق طعم الحكم، فكيف سيكون الحال عندما تمارسه وتسيطر عليه؟ والخلاصة هنا هي أن هذه الحركات تعمل في المدى القصير والمتوسط على ترسيخ ما يتناقض عملياً مع طموحاتها الشعاراتية.
من المسائل الدائمة الطرح أيضاً عند نقاش قضية الإسلاميين والحكم والديموقراطية مسألة ازدواجية الخطاب، وهي وجود خطاب داخلي وتربية داخلية يتربى عليها الأفراد، وخطاب مسيّس وديبلوماسي ومعتدل يتم تبنيه عند التعامل مع الآخرين. سيقول كثيرون إن هذه الممارسة ليست محصورة بالحركات الإسلامية، بل هي سمة الأحزاب السياسية والسياسيين حيث كانوا، وهذا صحيح. لكن ما هو مميز ومقلق في شأن الممارسة الإسلامية، وبعيداً عن السؤال الأخلاقي، هو أن التربية الداخلية وتأهيل الأعضاء يقومان على برامج غير معتدلة وترفض الآخر وتفترض أن الحقيقة المطلقة هي الى جانب الحزب الإسلامي المعني. ومقاربة السياسة والعلاقة مع الآخرين لا تقوم على مبدأ داخلي وخارجي منطقه تقديم رؤية منافسة أو بديل منافس، بل على العكس تماماً فما يُقدم هو «الرؤية التامة» و»البديل المطلق». وهذا يعود طبعاً إلى البنية الأيديولوجية الدينية التي تفترض خواء كل البدائل «الدنيوية» الأخرى. في جلسات المؤتمر المذكور قُدمت آراء ومقاربات من قبل الإسلاميين الموجودين إزاء مواضيع شائكة لها علاقة بالديموقراطية والعلاقة مع الغرب والمواطنة وحقوق الإنسان ووضع المرأة. ولو أخذنا تلك المقاربات والآراء على ظاهرها لكانت النتيجة أن الحركات الإسلامية في المنطقة هي أكثر حداثة وليبرالية وتقدمية وانفتاحاً من أعتى الأحزاب الليبرالية في السويد وسويسرا وغيرهما. المشكلة في هذا الخطاب تتعدى كونه بعيداً عن الإقناع وتحقيق المطلوب إلى إثارة الشكوك وعدم الصدقية أو تعميقهما. فهنا ليس ثمة أسرار في الاشكاليات العديدة والمركبة التي ما زالت برسم المواجهة بين الإسلاميين والقضايا ذات العلاقة بالحكم والديموقراطية والمساواة بين الأفراد: سقف الديموقراطية ومصدر السلطات، تقلد المرأة المناصب السياسية والقضائية، تقلد غير المسلمين المناصب القيادية العليا في الدولة، وضع المرأة، الحريات الفردية والاجتماعية والجنسية، وسوى ذلك مما تزدحم به أجندة النقاش. هناك حاجة حقيقية عند الإسلاميين للانخراط في عملية اجتهاد واسعة النطاق للإجابة على هذه الأسئلة عوض القيام بتبني خطاب مداور حولها.
مسألة أخرى ملحة تقع في قلب الجدل الراهن حول الإسلاموية والحكم والمجتمع تتأتى من إشكالية علاقة المقاومة بالأسلمة في الحالات التي تواجه فيها الحركات الإسلامية وضعاً احتلالياً وخاصة في فلسطين وجنوب لبنان والعراق. ففي هذه الحالات ينشأ وضع مختلف عن الأوضاع التقليدية العادية التي توجد فيها حركات إسلامية تعارض أنظمة حكم قائمة. فهنا وباستخدام قضية «المقاومة» تنبني شرعية من نوع مختلف لصالح هذه الحركات وهي تقاوم الاحتلال القائم. وسرعان ما يتم استخدام هذه الشرعية المتولدة من صراع مع طرف خارجي للترويج لأجندة اجتماعية داخلياً. ولئن كان من حق هذه الحركات أن تروج لبرنامجها الاجتماعي والسياسي كما تشاء وبالطرق السلمية، إلا أن النقطة الخلافية هنا هي ربط البرنامج الاجتماعي بالمقاومة.
مسألة أخرى تتبدى كثيراً في المنتديات التي تناقش قضية الإسلاميين والديموقراطية خاصة عندما تُعقد في مدن غربية وتنظمها مراكز بحث غربية هي نزوع الإسلاميين لتقديم قبولهم بالديموقراطية كعملية مقايضة يتنازلون بها للغرب مقابل مكاسب معينة. والصورة هنا فيها قدر غير قليل من السوريالية: الغرب يضغط على دول وحكومات وحركات المنطقة السياسية لتبني الديموقراطية, وهذه الدول والحكومات والحركات تتمنع وتطالب بثمن مقابل ذلك التطبيق المفترض. تصبح الديموقراطية قضية علاقات عامة خارجية، لها صلة بالصورة التي تريد هذه الحكومات والحركات إعطاءها عن نفسها، ولا علاقة لها بالجوهر. ولا علاقة لها، وهنا الأهم، بإشكالية تفكيك التأزم الداخلي وتنفيس الاحتقانات الأهلية وتنظيم الصراع على السلطة بطريقة سلمية. والسجال مع الغرب يتقلص إلى «النيّات الكولونيالية» في فرض الديموقراطية على المنطقة العربية، وكأن الأصالة تتمثل في الديكتاتورية والتمسك بها.
قضية الإسلاميين والديموقراطية والحكم هي واحدة من قضايا لا تُعد ما تزال تدق باب الفكر السياسي العربي منذ أكثر من قرن, تجاور قضايا أخرى: المرأة، الغرب، المواطنة، الدين والدولة، قضايا ضاع قرن من الزمن في نقاشها من دون الوصول إلى شبه إجابات. سجالات بداية القرن الحادي والعشرين عربياً تكاد تكون هي نفسها سجالات بداية القرن العشرين.


* أكاديمي أردني فلسطيني - جامعة كامبردج

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك..

 الأحد 24 آذار 2024 - 2:34 ص

"عرضة لأنشطة إيران وداعش".. تحليل: أمن واستقرار الأردن على المحك.. الحرة – واشنطن.. منذ السابع من… تتمة »

عدد الزيارات: 151,066,572

عدد الزوار: 6,751,081

المتواجدون الآن: 108