عاشوراء وطقوس الحزن

تاريخ الإضافة الخميس 12 كانون الثاني 2012 - 4:39 ص    عدد الزيارات 989    التعليقات 0

        

 

عاشوراء وطقوس الحزن
سعود المولى
لئن كانت نقطة انطلاق الطائفة (أية طائفة ولكننا هنا سنتكلم عن الطائفة الشيعية) في الأصل تجمعات عبادة دينية أو مذهبية خاصة فإن عامل العبادة لم يعد هو الذي يحافظ على تماسك الطائفة ولا هو الذي يحيي نشاطها أو يحدد أهدافها. ولم يعد التعلق بمضمون العقيدة الدينية الأصلية الذي كان في أساس نشأتها هو ما يؤمن تماسك الطائفة، بل إنه ذلك الالتحام العصبي... وتسعى الطائفة الى اثبات نفسها والى تأبيد دورها من خلال تواريخ أسطورية وقصص وأساطير تعطي لاستمراريتها معنى وتكسبها شرعية.. لم تعد الطائفة تستمد ديناميكيتها إذن من تقوى أفرادها أو علم وفقه وورع مراجعها، أو انضباطها بموازين الشرع.. لا بل أن التركيز على التزام ممارسة بعض الشعائر والطقوس غالباً ما يكون القصد منه التأكيد على الهوية الطائفية الجماعية (شكل من أشكال النرجسية الجماعية نجدها بالملموس في احتفاليات عاشوراء وطقوس الزيارات الشيعية وغيرها الى مقامات الائمة والأولياء)، في حين أن الديناميكية الحقيقية للطائفة ترتكز على العصبية بمعناها الخلدوني أي باعتبارها مزيجاً نفسياً-سوسيولوجياً هو في الآن نفسه قوة تماسك الجماعة، وشعورها بخصوصيتها، ووعيها لطموحاتها الجماعية، كما هي تعبير عن ذلك التوتر الذي يحركها ويدفعها تدريجاً ومن دون أن يكون لها حرية الاختيار نحو السيطرة على السلطة... فما يحرك الطائفة ليس الدعوة الدينية (نشر إيمانها أو عقيدتها أو هداية الناس) وليس التدين والتقوى الفردية، وإنما هي العصبية التي غايتها السلطة... وبتعبير ابن خلدون نقول : إعلم إن الملك (أي السلطة) غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه..
والهوية الطائفية تنبني انطلاقاً من اّلية مزدوجة من التمايز والتماهي مع المحيط. والمحيط هنا هو عامل فاعل أولي في ادامة هوية خاصة. الهوية هي اذن وبشكل ما نتاج المجتمع والتراث الثقافي.. بعض العناصر قد تلعب دوراً أكثر تعبوية واستثارة للهوية : الدين خصوصاً.. غير أن التركيز على العنصر الديني في بناء وتعبئة واستثارة الهوية لا يكون من باب الايمان أو التقوى بل من باب استراتيجيات الهوية واثبات الذات.. وهنا يبرز شيوع التفسير النصي الحرفي للدين وانفلات المظاهر الشعائرية والطقوس الخارجية كمعبر للتمايز على حساب الجوهر الروحي للدين.. فالجماعة - الطائفة تتشكل من خلال استحضار شعائري- طقسي لذاكرة تاريخية محملة بالخصوصية التي تؤسطر الذات (في المكان والزمان) إلى حد القداسة.. والأساطير المؤسسة للجماعات الطوائف هي بحسب ميرتشيا إلياده حقائق حية وقصص حقيقية ثمينة وجوهرية نظراً لقدسيتها ومثاليتها النموذجية ومعناها الرمزي. (ميرتشيا الياده:البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007)... فهي تشكّل أنموذجاً للسلوك البشري وبذا تعطي معنى وقيمة للوجود.. أما مالينوفسكي فهو يصف الأسطورة ليس كتفسير أو كتعبير عن حشرية علمية بل كسرد روائي يعيد احياء واقعة اولية، ويجيب في الآن نفسه على احتياجات دينية عميقة وعلى تطلعات أخلاقية، وقيود وضوابط اجتماعية، لا بل وحتى على متطلبات عملية..
وتبدو الطقوس الخاصة بجماعة ما وكأنها نظام اتصال وتواصل له نفس وظائف اللغة.. وبحسب كلود ليفي ستروس ورادكليف براون وكليفورد غيرتز وغيرهم من الانتروبولوجيين فان للطقس وظيفة الدمج وبناء الهوية.. فهو يعزز الروابط، ويؤطر ويقود المشاعر، ويعطي قوة لمبادئ وافكار ثقافة الجماعة، وهو يحدد الادوار الاجتماعية، ويهيكل ويحفّز السلوكيات، ويساهم في تركيز سلطة ما.. وللطقس وظيفة اعلامية تربوية اذ هو يجدد ويحيي العقيدة، ويقونن المبادئ العامة لتكوين السلوك الفردي والجماعي، ويبلور الشخصية الجماعية، وأساسا يبلور الذاكرة الجماعية.. وفي عاشوراء كمثال فان الطقوس الاحتفالية (التمثيلية خصوصاً) نقلت الواقعة الكربلائية من مجال التاريخ الى مجال الذاكرة الجماعية.. حقاً إن الذاكرة الجماعية تستوحي حدثاً وقع في التاريخ الا انها تبسّط وتختزل هذا التاريخ، وتقوم بتنقيته، عبر الأسطرة والتحوير والتلفيق، مستخدمة في ذلك لغة رمزية خاصة...
[ الأسطرة التاريخية لذاكرة الحزن
أقدم إشارة في التاريخ إلى الحزن الجماعي المنظّم هي فيما يبدو تلك التي ترد في ملحمة كلكامش (حدود العام 3200- 3000ق. م.). فحين عرضت الآلهة عشتار الزواج على كلكامش خاطبها بقوله: "من أجل تموز حبيب صباك قضيتِ بالبكاء سنة بعد سنة ".. وهذا يشير إلى عادة الندب والبكاء على تموز إله الخضرة والربيع حيث كان الاعتقاد أنه ينزل الى العالم السفلي في الخريف ويعود الى الحياة مع بشائر الربيع.. وقد صوّره الشعراء البابليون راعياً مات في زهرة شبابه فنزلت عشتروت الى جهنم لتلاقيه وتعيد له الحياة عابرة الأبواب السبعة من مساكن الموتى.. وفي اليوم الثاني من الشهر الرابع من السنة البابلية الذي يقابل أول تموز في عرفنا اليوم كانوا في بابل يغنون قصائد الشعراء المنظومة لذكرى موته فدعي الشهر تموز من أجل ذلك... (أنظر خصوصاً ملحمة كلكامش ترجمة طه باقر، وزارة الثقافة والارشاد العراقية 1962، حيث إن مقدمة المترجم هي بحث تاريخي جيد في الموضوع... وأنظر الدكتور حبيب ثابت: عشتروت وأدونيس، ملحمة شعرية، دار مجلة الأديب، بيروت، 1948، خصوصاً مقدمة الشاعر المهمة)..
وقد تطورت هذه المراسيم في العراق نفسه فوجِّه هذا البكاء عند البابليين الى الإله مردوك في اليوم السابع من نيسان وذلك أثناء احتفالاتهم بأعياد رأس السنة التي كانت تستغرق 12 يوماً تبدأ في الأول من نيسان.. وكانت احتفالات هذا اليوم تتمثل في دراما محزنة لموت الإله مردوك وصعوده الى السماء، فالإله يجرح ويموت ويبحث الناس عنه في كل مكان مولولين وناحبين.. (أنظر مقالة الدكتور محمود الأمين: أكيتو أو أعياد رأس السنة البابلية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، الجزء الخامس، سنة 1962، ص 148، وأنظر خصوصاً كتاب الدكتور كامل مصطفى الشيبي:الصلة بين التصوف والتشيع، جزءان، بغداد، 1963-1964)...
ويبدو أن هذا التقليد انتشر إلى الحياة الاسرائيلية أبان السبي البابلي... ففي الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر حزقيال، الإصحاح 8، الآية 14: "على مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال واذا نسوة جالسات يبكين على تموز"... وفي المزمور 137 من سفر المزامير نقرأ الآيات 1-6: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا، لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحا قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون، كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة، إن نسيتك يا أورشليم، تنساني يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي"......
ووصل تموز الى مصر الفرعونية وصار اسمه أوزيريس، والى اليونانية وتسمى بأدونيس أخذاً من الفينيقيين الذين سموه أدون أو أدوناي أي السيد.. وكانت النساء في لبنان "تبكين في كل عام موت أدونيس ويرخين شعورهن.. ولكي يتذكرن موته كن يزرعن على الأحواض في السطوح بقلاً وشعيراً وشمراً ويحرقن البخور فوق المذابح".... وكانوا في لبنان "يدفنون في الهياكل تماثيل تشبه أدونيس وتقوم من القبر في اليوم الخامس لدفنها ويعيدّون قيامها"... (د. عبد الواحد الوافي، الأدب اليوناني القديم، دار المعارف بمصر، ص135-141... دريني خشبة: أساطير الحب والجمال عند الإغريق، مطبعة الرسالة بمصر، ص20-22 و66-75).. وتلك تفصيلات تذكر بالمسيح وقيامته... وقد ذكر حبيب ثابت رواية عن القديس جراسيموس الأردني (ت475م) "أنه كان في بيت لحمم غاب مقدس على اسم أدونيس وكان المصلون يقيمون المناحات عليه يوم ذكرى موته في المغارة التي ولد فيها السيد المسيح" (م. س. ص19)... وقد ذكر آدم متز "أنه سرى كثير مما يقال لإثارة العواطف في يوم جمعة الآلام عند المسيحيين الى يوم عاشوراء"... ونقل متز عن ابن بابويه القمي نصاً ورد في كتابه علل الشرائع هو محاورة بين كُمَيل بن زياد وامرأة يقال لها جبلة المكية، يقول لها كُمَيل : إذا نظرتِ السماء حمراء، كأنها دم عبيط، ورأيتِ الشمس على الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة، فاعلمي أن سيد الشهداء قد قتل" (آدم متز، الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الدكتور محمد عبدالهادي أبو ريدة، القاهرة 1948، ج1، ص82).. ونص القمي ورد نظيره في عدة كتب منها سير أعلام النبلاء للذهبي (لفظاً ومعنى).. ونقل الخطيب البغدادي وابن عساكر وسبط ابن الجوزي والسيوطي أخباراً من هذه عن ابن سيرين وغيره... ولكن آدم متز لم يذكر النص المسيحي الذي يعتقد أن نص القمي مأخوذ منه...
وقد بقي في العراق عند طائفة الصابئة الحرانية الكلدانية هذا التقليد الحزين وتغريبه ودخل ضمن احتفالاتها الدينية التي منها واحد يقع في النصف من تموز ويسمى عيد البوقات ويعني "النساء المبكِّيات"..
وفي بلاد فارس كان هناك تقليد مشابه لدى الخرمية الذين ثاروا على الدولة العباسية مطلع القرن الثالث هجري.. وقد قيل إنه "كان لهم في الجاهلية نبي اسمه شروين ويفضلونه على الانبياء ومتى ناحوا على ميت أخذوا باسمه ندبة ونياحاً وتفجعاً عليه" (الاسفراييني: التبصير في الدين، تحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، طبعة مصر 1940، ص80).
[ الحزن الشيعي ومحطاته
يرى الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن مظاهر الحزن والعزاء الحسيني هي تقليد عربي قديم ما نزال نكرره إلى يومنا هذا في كل مناسبات الوفاة في البلاد العربية... ولو أنه لم يجادل في الأصل البابلي/الكلداني/ العراقي القديم.. وفي التقليد العربي القديم المستمر الى يومنا هذا إلقاء الشعراء للشعر في تأبين الميت، والحداء والبكاء، واقامة مجالس الحزن والعزاء في البوادي والأرياف لمدة 3 أو 7 ايام واستعادة ذكرى الوفاة في يوم الأربعين وهي تواريخ تشي بالأصول القديمة السابقة على الاسلام...
وبحسب شمس الدين فإن كربلاء شهدت أول مأتم عزاء للحسين ورفاقه حيث ابتدأ المأتم بعد ظهر العاشر من محرم واستمر طوال الليل وحتى ظهيرة اليوم التالي الحادي عشر من محرم حين قام العسكر باقتياد النسوة سبايا الى دمشق.. وقد كان مأتماً فاجعاً مهيباً نظراً للتمثيل بجثث الشهداء وفيهم أطفال، "مأتم ارتفع فيه النواح الراعش لهاتيك النسوة الغريبات مع أطفالهن وهم جميعاً ظماء جياع مروعون بمشاهد الأزواج والأبناء والآباء والأخوة صرعى".. (شمس الدين: واقعة كربلاء في الوجدان الشعبي، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 1996، ص223-224).. والمأتم الثاني كان في المدينة حين بلغ بني هاشم خبر المجزرة في كربلاء.. واشتد المأتم حين وصل الركب الحزين الى المدينة قادماً من دمشق.. وهذا المأتم استعاد التقاليد العربية في هكذا مناسبات فكانت المجالس تعقد في البيوت وكانت مآتم الرجال تشمل عبارات العزاء وتبادل الأحاديث عن الواقعة وبعض الشعر خصوصاً عند إقامة ذكرى المناسبات السنوية... أما مآتم النساء فكانت أكثر حرارة وتشتمل على بيان الواقعة بعبارة عاطفية وبيان مناقب الشهداء يتخلل ذلك شعر النوح وربما رافق ذلك لطم على الوجوه ولطم على الصدور على ما جرت العادات القديمة... وكان هناك مآتم عرضية عامة انعقدت في طريق مرور قافلة السبايا من كربلاء الى الشام وداخل القصر الأموي في دمشق ثم في طريق العودة الى المدينة... وفي هذه المآتم كانت خُطب السيدة زينب والسيدة أم كلثوم والسيدة فاطمة الصغرى والطفل علي بن الحسين، تثير بين نساء العرب الحزن والبكاء والنحيب ونشر الشعور ووضع التراب على الرؤوس وخمش الوجوه ولطم الخدود... وهي من المظاهر التي ما زلنا نشهدها في كل العزاءات، اسلامية كانت ام مسيحية، سنية ام شيعية، في طول البلاد العربية وعرضها...
وبحسب الشيخ شمس الدين فإن المأتم الحسيني حافظ على طابعه العائلي العربي وسماته الأساسية على مر العصور ولم يدخله تغيير يذكر سوى في لغة شعر النوح وفي قصة الواقعة.. ومع الزمن تطور المأتم وعرف عدة أدوار قبل أن يتحول الى مؤسسة ثقافية-اجتماعية ذات أعراف وتقاليد..
فخلال عهود الأئمة علي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق، كان هناك توجيهات تعطي شكلاً محدداً للمأتم وهو إحياء ذكرى عاشوراء في موعدها من كل عام (اليوم العاشر من محرم) من خلال واحدة من ممارستين مستحبتين: زيارة الحسين لمن كان منزله قريباً من القبر.. والتجمع والبكاء في البيوت لمن كان بعيداً عن كربلاء... وزيارة القبور في عرف الشيعة والمتصوفة وغالبية أهل السنة والجماعة (باستثناء الحنابلة والوهابية والسلفية) أمر مشروع لا غضاضة فيه بل هو من المستحبات... وفي عهد الامام محمد الباقر كان المأتم الكبير يقام عند قبر الحسين... وشاعت المجالس أكثر في عهد الامام الصادق الذي حث على انشاء الشعر في الحسين.. وقد تطور الشعر الحسيني في عصر الصادق وغدا له أسلوب خاص به هو النوح فلم يكن تلاوة وإلقاء للشعر فقط بل دخلت فيه عناصر صوتية تزيد من تأثيره العاطفي والنفسي (قارن بنواحية شعر مظفر النواب)... كما تفرغ رجال ونساء لإنشاء الشعر في رثاء الحسين وتخصصوا في النوح بهذا الشعر وتخصص آخرون في ما عرف برواية القَصص ويبدو أن هؤلاء كانوا أسلاف خطباء المنبر الحسيني المحترفين... وكان القصّاص موجودون منذ عصر عثمان إذ كانوا يجلسون في المساجد بعد الصلاة ويحدثون الناس بقصص حروب الفتح والسيرة النبوية وسير الصحابة والمواعظ الخ... وقد استخدم معاوية أبرع استخدام هؤلاء القصاص لنشر الدعاية له بين العامة.. وقد كتب الشيخ هبة الدين الشهرستاني في نفس الاتجاه (نهضة الحسين، جامعة المنشورات الاسلامية، العراق، 1969) مركزاً على ناحية الشعر والشعراء الذين كانوا أساس المأتم الحسيني في الزمن الأموي.. ومع العباسيين ازداد وزن الشيعة داخل السلطة ما سمح ببعض فترات هدوء ونمو شهدت تطور مجالس البكاء الشعرية (أنظر أيضاً دراسة رالف زق الله المهمة: يوم الدم، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت 1997، الصفحات 84-88، والمصادر الغربية التي يستخدمها خصوصاً كتب الرحلات ومذكرات الرحالة).
ويرى الشيخ شمس الدين أن قيام السلطات البويهية في بغداد والحمدانية في حلب والفاطمية في مصر قد ساعد على نشر الرقعة الجغرافية للمأتم الحسيني في مناخ من الحرية النسبية وتحت حماية السلطة في معظم الأحيان (شمس الدين، مرجع سابق، ص 260-267)... غير أن هذا التطور ساهم في إحداث تغيرات كبيرة في نوعية محتوى المأتم تمثلت في التوسع في تفاصيل الأحداث ومسبباتها منذ حادثة السقيفة وخلافة الرسول وحتى مصرع الحسين... وغدا الشعر الرثائي يحمل نزعة كلامية تاريخية بحسب وصف شمس الدين "إذ يستخدم وقائع التاريخ بعقلية المتكلمين ليعطي تفسيراً لموضوعه الحسيني"(شمس الدين، م. س. ص268).. وتحول المأتم من حوار نثري شعري إلى قصة تروى وقصيدة تنشد فإلى نص مكتوب (هو المقتل).. ثم انتهى في زمن البويهيين الى مزيج من النثر والشعر يحكي قصة المأساة بروح تاريخية فضائلية... ومع الوقت كان العديد من الأئمة وعشرات العلويين الثائرين قد قتلوا على يد بني أمية وبني العباس فكانت الأحزان عليهم تنضاف إلى الحزن الكبير على الحسين ومعها تنضاف الأحداث والملابسات والمآسي التي حفلت بها حياة هؤلاء الأئمة المتأخرين والعلويين الثائرين.. وشهد هذا الدور في نهايته نمو المأتم العلوي بوجه عام فصار يتلى المقتل في ذكرى قتل الامام علي (ليلة 19 رمضان) ودخلت مصائب أهل البيت في مضمون المأتم الحسيني وانتشرت المؤلفات تروي سيرة حياة وموت كل إمام وكل علوي ومنها كتب مقاتل الطالبيين (أبو الفرج الأصفهاني) والارشاد للشيخ المفيد... ومنها قصيدة دعبل الخزاعي الشهيرة التي أنشدها للإمام علي الرضا وذكر فيها علياً ومظلوميته ثم الحزن على جعفر الطيار وابنه عبدالله وحمزة عم الرسول فالامام علي والحسين ففاطمة الزهراء.. الخ.. (راجع شمس الدين، ص268-273)... وبحسب شمس الدين فإن البويهيين هم من أدخل اللطم على المأتم الحسيني ثم تبعهم الصفويون...
[الطقوس الفارسية الجديدة
غير أن التجديد الأخطر في عواقبه فهو إدخال البويهيين رسمياً الى بغداد الاحتفالات الشعبية الكبرى.. وبحسب ما يذكر ابن الأثير في تاريخه (ج8- ص181) فقد شهد عام 352هـ/965م احتفالاً جماهيرياً كبيراً يوم العاشر من محرم حيث أمر معز الدولة باغلاق الحوانيت في بغداد واقامة مجالس تعزية عامة في سرادق موشحة بقطع قماش ضخمة ونزول النساء الى الشوارع مشحرات الوجوه نادبات ضاربات للخدود... أدى ذلك الى استثارة موجة مضادة وعلى مدى سنتين 966-967 تمثلت بمظاهرات سنية كبيرة واشتباكات طائفية متنقلة في بغداد.... ثم انقطعت المظاهر بعد سقوط البويهيين ومجيء السلاجقة باستثناء ما شهدته بغداد سنة 1009 من مواكب طوافة وقرع طبول يوم عاشوراء... ولم نعد نجد أي ذكر لهذه المظاهر حتى كان زمن الدولة الصفوية في ايران..
والمفيد ملاحظته هنا أن البويهيين كانوا من الزيدية حين كانوا حكام طبرستان ولكن استلامهم للسلطة في بغداد حولهم من الزيدية الى الإثني عشرية لسبب بسيط وهو أن الإمام عند الزيدية هو من يخرج بالسيف داعياً لنفسه أما الإثنا عشرية فليس لها إمام رسمي تدعو اليه... ولعلهم احتاجوا الى مواكب العزاء المبالغ في مسرحتها لتأكيد انفصالهم عن الزيدية أولاً ولتكوين عصبية عراقية لهم ثانياً لذلك بالغوا في تلوين التزامهم الجديد باختراع مراسيم لم تخطر على بال الفاطميين ولا الحمدانيين، ولم يعهدها الزيديون بالطبع.. وهو ما قامت بتطويره وتوسيعه الحركة الصفوية التي استلمت الحكم في ايران مطلع القرن السادس عشر.
في حديثه عن التأثير المريع الذي تركته الدولة الصفوية على التشيع بعامة وعلى تراث المأتم الحسيني تحديداً، استخدم الشهيد الدكتور علي شريعتي عبارة (التشيع الصفوي) ولم يكن يقصد بها الإيرانيين أو الفرس بل تأثير الدولة الصفوية (1501-1736م) فى زمن سطوتها وسلطتها منذ استلام الشاه إسماعيل حيدر الصفوي (1478م-1524م) الحكم سنة 907هـ 1501م، وجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية وقام بتحويل إيران إلى دولة شيعية بالقهر والقوة والسلطان، وإحداثه نقلة فى التشيع حين حولّه من عقائد وفقه وثقافة الى فولكلور وتقاليد وأعراف وممارسات وثنية حرفته عن (التشيع العلوي) على حد تعبير علي شريعتي، أي عن مبادئ الإمام علي وحركته الثقافية الفكرية العقائدية الإجتماعية السياسية.... ومن الذين شاركوا علي شريعتى نظرته نذكر من ايران الشهيد مرتضى مطهري صاحب كتاب الملحمة الحسينية والذي قتلته فرقة من غلاة الشيعة الثوريين تسمي نفسها الفرقان، ومحمود طالقاني ومحمد تقي القمي ومحمد صالح المازندراني وإبراهيم جناتي.. ومن العرب نذكر محسن الأمين العاملي وجعفر كاشف الغطاء ومحمد حسين كاشف الغطاء ومهدي الحيدري ومحمد باقر الصدر ومحمد الصدر ومحمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد جواد مغنية وعلي نقي الحيدري وهاشم معروف الحسني وموسى الصدر ومحمد رضا المظفر ومحمد سعيد الحبوبي... وباحثون كثر منهم علي الوردي وإبراهيم الحيدري وجواد علي...
ويذكر شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" (دار الامير، بيروت، 2002) كيف قام الصفويون باختراع نسب فارسي شاهنشاهي للأئمة عبر أكذوبة زواج الحسين من ابنة آخر ملوك فارس الساسانيين وولادة الامام زين العابدين من هذا الزواج... ويدحض شريعتي الاسطورة هذه بالوقائع التاريخية ويقول إن الحركة الصفوية ورجال الدين المرتبطين بها عملوا كل ما من شأنه التوفيق بين القومية الإيرانية والدين الإسلامي، لتبدو الوطنية والقومية الإيرانية بوشاح ديني أخضر، وفي هذا الصدد أعلنوا بين عشية وضحاها أن الصفويين أحفاد الشيخ صفيّ هم (سادةٌ) من حيث النسب أي أحفاد للنبي محمد! وتحول المذهب الصوفي القزلباشي فجأة إلى مذهب شيعي إثني عشري، وتلبس الصفويون بلباس ولاية علي ونيابة الإمام (هذا ما ادعاه الشاه اسماعيل) والانتقام من أعداء أهل البيت... في ضوء ذلك يفسر شريعتي تركيز أجهزة الدعاية الصفوية على نقاط الإثارة والاختلاف والفصل المذهبي والاجتماعي والثقافي بين السنة والشيعة.. ويقول إن الحركة الصفوية حرصت على تعطيل أو تبديل الكثير من الشعائر والسنن والطقوس الدينية وإهمال العديد من المظاهر الإسلامية المشتركة بين المسلمين. ويضيف بأن مراسيم اللطم والزنجيل والتطبير وحمل الأقفال ليست فقط دخيلة على المذهب ومرفوضة من وجهة نظر إسلامية بل هي تثير الشكوك حول منشئها ومصدر الترويج لها.. ويؤكد شريعتي أن هذه المراسيم تجري بإرادة سياسية لا دينية وهذا هو السبب في ازدهارها وانتشارها على الرغم من مخالفة العلماء لها، وقد بلغت هذه المراسيم من القوة والرسوخ بحيث أن كثيراً من علماء الحق لا يتجرأون على إعلان رفضهم لها ويلجأون إلى التقية في هذا المجال!! ويستعرض شريعتي تاريخ نشوء المسرح الكربلائي وتمثيل الواقعة والاستعراضات الفولكلورية المواكبة لها في اليوم العاشر فيتتبع مصدرها الى وسط آسيا والى ممارسات القبائل التركمانية ما قبل الإسلام والى بعض التأثيرات المسيحية من القرون الوسطى كما يشير الى الدور السوسيولوجي الذي لعبته في بناء العصبية الفارسية وشد لحمتها من خلال تحويل التشيع الى طائفة/سلطة..

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,361,409

عدد الزوار: 6,988,364

المتواجدون الآن: 72