العلاقة بين الذات والآخر من منظور تاريخي

تاريخ الإضافة الأربعاء 11 كانون الثاني 2012 - 6:46 ص    عدد الزيارات 868    التعليقات 0

        

 

العلاقة بين الذات والآخر من منظور تاريخي

الجابري يرى أن الأمة العربية تشكلت مع «صحيفة النبي»

بيروت: سمير شمس
ينظر الدكتور محمد عابد الجابري إلى مسألة الهوية من منظور تاريخي، من حيث إنه وعي بالذات متطور ومتجدد، يتحقق من خلال الوعي بالآخر. من هنا السؤال الذي يفرض نفسه على كل شعب أو مجموعة؛ سؤال: من أنا؟ من نحن؟ ومن هم؟ وهذا السؤال المقض للمضاجع لا يتعلق بالحاضر، بل يتعلق أكثر بالماضي والمستقبل.
إن مسألة الهوية عندما تطرح نفسها على شعوب عريقة، كالشعوب العربية والهندية والصينية وغيرها، التي اجتازت خلال تاريخها المديد تجارب قاسية، يجب أن ينظر إليها على أنها تعبير عن الحاجة، لا إلى تحديد الهوية، بل إلى إعادة ترتيب عناصرها وإعادة إرساء علاقتها بالمحيط. إن التجارب التي يعانيها الأفراد، والتحديات التي تواجهها الشعوب والأمم، تجعل من الضروري بين حين وآخر إعادة ترتيب عناصر «الأنا» الشخصي والجماعي، بالشكل الذي يمكِّن من اجتياز الأزمة التي يطرحها سؤال الهوية. إنها في الغالب «حالة نفسية» أشبه بأزمة على صعيد الوعي. قد تشتد لدى أشخاص أو شرائح اجتماعية إلى الدرجة التي تؤدي إلى طرح سلبي لمسألة الهوية؛ إلى تضخيم شأنها أو إنكارها بالمرة، هذا في حين أن المسألة كلها تؤول في نهاية الأمر إلى إعادة التوازن داخل الوعي؛ الفردي والجماعي.
من هنا يبدو واضحا أن معالجة مسألة الهوية، تتوقف على الطريقة التي نتعامل بها معها. فإذا نحن نظرنا إلى الهوية من حيث الثبات، فإننا سنجد أنفسنا نتحرك على نقطة ميتة، ولذلك كان من الضروري التعامل مع مسألة الهوية من زاوية تسمح بممارسة الفعالية العقلية فيها، وذلك بالنظر إليها أولا من الزاوية التاريخية، لا من زاوية الثبات والجمود، بل من خلال التطور. في هذه الحالة تصبح مسألة الهوية موضوعا للفكر، يمارس العقل فعاليته عليها، وليس حالة وجدانية تجعل عقل صاحبها وجسمه كذلك يهتز على نقطة ميتة، لا يتقدم خطوة حتى يتراجع خطوة أخرى.
يطرح المؤلف الجواب على سؤال يطرح نفسه فيقول: علينا أن ننظر إلى مسألة الهوية من حيث هي وعي بالذات متطور متجدد. كيف تطور الوعي بالذات عبر التاريخ؟ كيف تمت لدينا إقامة علاقات جدلية تاريخية بين ذواتنا والمعطيات الخارجية؟
الأمة العربية، مثلها مثل كثير من الأمم، هي مجموعة قبائل وشعوب، لها تاريخ مديد، لكن الوعي بالهوية لا يمتد بالضرورة عبر هذه الآلاف من السنين جميعها، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي، بل هو وعي يتحرك داخل التاريخ الذي ما زال حيا في النفوس: يفعل فيها فعله، تستنجد به وتستلهمه كلما كان هناك شعور بالحاجة إلى ذلك.
كما أن العرق العربي في الوطن العربي لا يشكل الأغلبية العددية، فإن التاريخ الحي في وعي الأغلبية الغالبة من أبنائه يبتدئ مع الإسلام، فإنه من الممكن أن نعتبر أن الإسلام كدين وحضارة في كل قطر كان يشكل بداية جديدة لوعي أبنائه بانتمائهم للوطن العربي، هذا الوطن الذي يشكل المجال الجغرافي التاريخي للوعي بوجود «الآخر»، الذي به تتحدد «الأنا» كهوية منفصلة. ذلك أن الوعي بالهوية إنما يتحقق من خلال الوعي بالآخر. والإسلام، حين البعثة، بدأ في بيئة عربية محضة، وكان الوعي بـ«الأنا» يتشكل في بداية الأمر بمشركي مكة ومن حولها. ومع اتساع رقعة الإسلام داخل الجزيرة العربية نفسها أخذ الوعي «الأنا/ الإسلام» كدين يقترب من التطابق مع «الأنا/ العرب» كقوم. وبعد الانتصارات التي تحققت على إمبراطوريتي الروم والفرس، وإسلام كثير من الشعوب التي كانت تحت حكمهما؛ ففي هذا العهد وما تلاه أصبح «الأنا» و«النحن» يتحددان داخل الدولة العربية الوليدة. يقول الكاتب إن «الأمة العربية» كما تقوم اليوم في وجدان الشعوب العربية تشكلت دستوريا مع «الصحيفة» المعروفة بـ«صحيفة النبي»، وهي عبارة عن ميثاق قومي أبرمه النبي بعد الهجرة مع سكان المدينة من عرب ويهود.
وكان هذا الميثاق قوميا بالفعل لأنه أكد في أحد بنوده أن المهاجرين والأنصار واليهود هم جميعا «أمة واحدة» متضامنون متعاونون ضد أي اعتداء خارجي. فها هنا «وحدة قومية» بين المتساكنين في المدينة، وهم: المهاجرون المقبلون من مكة، والأنصار (الأوس والخزرج)، واليهود، سكانها الأصليون.
في إطار هذه «الوحدة القومية» أو «الهوية الجامعة» حافظت «صحيفة النبي» لكل قبيلة من قبائل يثرب، اليهودية منها والعربية، وللمهاجرين من قريش، على أعرافهم، خصوصا في المسألة الأساسية التي تهم المجتمع البدوي، مسألة «الجنايات»، وخاصة «القتل»؛ سواء كان خطأ أو عمدا. وبذلك أقرّت نوعا من الهدنة الاجتماعية بين «الهويات الصغرى»، وفتحت الباب للإخاء والتعاون في إطار هوية كبرى حتى قبل أن تكتمل الشريعة الإسلامية.
أخذ هذا الكيان الجامع بالتوسع مع غزوات النبي حتى كاد يشمل كل جزيرة العرب، ثم تابع من بعده الخلفاء الراشدون تأسيس دولة الإسلام التي كانت في الوقت نفسه دولة العرب.
كانت الدولة الأموية دولة عربية، بمعنى أن السلطة فيها كانت موزعة على القبائل العربية الحاكمة وحدها، في حين كان الأقوام الذين دخلوا الإسلام مبعدين عن ممارسة السلطة السياسية. والواقع أن استئثار بني أمية بالحكم إنما هو نتيجة حتمية للتطور، فالدولة الأموية منظورا إليها من زاوية التطورات الاجتماعية السياسية التاريخية، هي دولة قوم من العرب دخلوا الإسلام، فاتخذت دولتهم طابعا عربيا ضيقا، بمعنى دولة أكبر قبيلة عربية في عصرها.
أما الدولة العباسية، فقد تحولت بعد وقت قصير من قيامها إلى ما يشبه الإمبراطورية. وكما هو الحال في الإمبراطوريات عموما فالهوية الجامعة التي ترتكز إليها الدولة القومية تترك مكانها للهويات الصغرى التي تتنازع وتتآلف حسب الظروف والمصالح. في هذا الإطار أصبح «الأنا العربي/ الإسلامي» يتحدد عبر «الآخر/ الأعجمي»، عدو العرب والمسلمين، ويتمثل خاصة في الإمبراطورية البيزنطية التي هدّتها حملات الدولة العباسية، الشيء الذي أفقد التمييز بين العرب والمسلمين.
لم يختلف الأمر كثيرا على مستوى حال الهوية، خلال العصور الأخيرة للخلافة العباسية، على الرغم من قيام الدول المستقلة هنا وهناك. كان الوضع زمن هذه الدول هوية جامعة تبرز وتخفت حسب اشتداد وضعف التهديدات والتحديات الخارجية. وهويات قطرية لم يرتفع أي منها إلى مستوى الدولة القومية الجامعة. لقد بقيت الدول المستقلة عن الخلافة العباسية تستمد، اسميا شرعيتها الدينية من الحفاظ على نوع ما من العلاقة مع الخليفة، ذلك لأن الناس قد ترسخ في أذهانهم أن دولة الإسلام لا بد أن تكون واحدة.
لم يختلف الوضع كثيرا على عهد الخلافة العثمانية، فالهوية الجامعة بقيت الثقافة العربية الإسلامية التي لم يتغير وضعها كثيرا بعد سقوط الدولة العباسية. لقد افتقد العثمانيون «النسب العربي» كما احتفظوا بلغتهم فلم يتعربوا، ولم يحاولوا فرض لغتهم على الشعوب العربية. لقد كانوا يستمدون شرعيتهم من رماحهم المتجهة صوب أوروبا. وقد نجحوا في تثبيت شرعيتهم بعد فتحهم القسطنطينية التي استعصت على العباسيين.
ومع قيام عصر القوميات في أوروبا، أخذ شعور الأتراك يتزايد بالقومية الطورانية، وشعور عرب المشرق بوقوعهم خارج هذه القومية، وبالتالي خارج دولتها فظهرت فكرة العروبة والقومية العربية كتعبير سياسي عن الرغبة في التحرر من هيمنة القومية التركية الطورانية التي تستأثر بالسلطة.
هكذا يمكن القول بصفة عامة إن التطورات السياسية والآيديولوجية التي عرفها الوطن العربي والعالم الإسلامي منذ الأربعينات من القرن الماضي إلى أيامنا هذه قد أكدت حقيقتين متقابلتين؛ الأولى هي أن العروبة من دون الإسلام نفي للعروبة نفسها. والثانية أن الرابطة الإسلامية لا تكفي وحدها في تحديد هوية أي قوم من الأقوام المسلمة.
يقول المؤلف: إلى أن يتحقق نوع ملموس من «الوحدة العربية»، وإلى أن تتعرب شعوب إسلامية أخرى، أو على الأقل تصبح لغة القرآن العربية لغة ثانية فيها. ستبقى مسألة الهوية في كل قطر عربي مرتبطة بخريطتين: واحدة جغرافية قطرية تفصل بينها حدود سياسية، وخريطة تاريخية فسيفسائية قوامها ممالك ودول متعاقبة متزاحمة متنافسة حينا متعاونة حينا آخر، وفوق الخريطتين خريطة جديدة هادفة إلى دمج فسيفساء التاريخ في الجغرافيا، ودمج الحدود الجغرافية في العولمة المذيبة للحدود.
فكيف نحدد العلاقة بين الهوية العربية والعولمة؟
العلاقة بين الهوية والعولمة معقدة، فمن جهة تغزو العولمة الاقتصاد والثقافة، ومن جهة ثانية تعمل على فرض نفسها كـ«هوية جامعة» تستهدف الهويات الوطنية والقومية لتفسح المجال لبروز «الهويات الضيقة» (الفردية والإثنية والطائفية) وهي التي يسهل استقطابها، وبالتالي دمجها في «اللاهوية العولمية» في الليبرالية المتوحشة اقتصاديا وثقافيا. وهناك جانب آخر في العولمة وهو المتعلق بتقنيات الاتصال التي تلغي المسافات الجغرافية والثقافية وتساعد على تعميم المعرفة.
يمكن للمرء أن يتبنى القول: «يجب أن نأخذ بالعولمة ونعمل في إطارها لنعيش في المستقبل. أما الهوية فهي تنتمي إلى الماضي». وقد يقول من يخالفه الرأي: «يجب أن نقف في وجه العولمة، لأنها غزو يتجاوز السلع والاقتصاد ويستهدف الثقافة، وبالتالي الهوية والكيان».
يرى المؤلف أن مثل هذه المواقف التي تعمد إلى حل المشكلات بإلغائها لم تعد نافعة. وقد تكرر الحديث مؤخرا عن ضرورة «ترشيد العولمة»، وهذه إشكالية، فالفصل بين العولمة والهوية، بين الاقتصاد والثقافة، غير ممكن، لأننا لا نستطيع أن نرسم لمسألة الهوية مثلا إطارا محددا لا تتعداه؛ فإنه سيكون من الصعب وضع منحنيات للعلاقة التي يمكن أن تقوم بينها وبين الاقتصاد. وبالتالي فنحن لا نستطيع الوصول بصدد العلاقة بين العولمة والهوية إلى نتيجة نشعر معها فعلا بالاستقرار الفكري.
لقد عرف الفكر العربي الحديث إشكالية مماثلة لم يهتد إلى حل بشأنها. هذه الإشكالية تدعي بـ«إشكالية الأصالة والمعاصرة». ولقائل أن يقول: أليست مسألة «العولمة ومسألة الهوية» مظهرا جديدا فرضه التطور من مظاهر تلك الإشكالية؟
يجيب المؤلف: هناك فعلا تشابه بين الإشكاليتين، ولكن في الظاهر فقط، أما المضمون فمختلف، والألفاظ نفسها بصيغتها الصرفية تشي بهذا الاختلاف. فـ«المعاصرة» صيغة مفاعلة تفيد أننا نحن الذين نطلب المعاصرة ونقوم بها بأنفسنا، و«العولمة» صيغتها الصرفية فوعلة تفيد جعل الشيء على هيئة معينة. فلسنا نحن الذين نقوم بالعولمة، بل العولمة تتم خارج إرادتنا، على العكس تماما مما تدل عليه «المعاصرة» التي ندعو إليها. فنحن ننشد المعاصرة ولا نقول ننشد العولمة، بل نقول: ننخرط في العولمة أو نستعد في الدخول في عصر العولمة.
في المعاصرة نتعامل مع أنفسنا كذات، أما في العولمة فنشعر أننا موضوع لها. إن الأمر يتعلق بالهوية، والهوية مسألة وعي، لذلك سيكون الاعتراض بالاستفهام الاستنكاري التالي: هل من يتعامل مع الظاهرة نفسها كذات فاعلة كمن يتعامل معها كموضوع منفعل؟
كما أن المعاصرة تعمل على إغناء الهوية وتجديدها. فالأصالة هي وصف يمكن أن توصف به الهوية. أما العولمة فبما أنها تعميم وقولبة فهي تهدد الهوية كما تهدد الأصالة، أو على الأقل نوعا من الهوية ونوعا من الأصالة.
يمكن لداعية العولمة أن يقول: لقد انتهى عصر القوميات والهويات، ونحن الآن في عصر الفضائيات والمعلوماتية.
هذه العبارة تحمل صدقا وكذبا في آن واحد؛ هي صادقة في القول: «نحن في عصر الفضائيات وشبكة المعلومات»، ولكنها كاذبة في القول: «انتهى عصر القوميات والهويات». لأن هذا حكم ذهني لا يستند إلى الواقع، وها هي الولايات المتحدة تحرص على حماية مصالحها القومية، كذلك بريطانيا التي رفضت الانضمام إلى منطقة «اليورو» لأن عملتها «رمز وطني». فإذا نظرنا إلى العولمة من خلال الادعاء بأنها «نشاط تجاري محض»، وبالتالي «لا وطن لها»، سينتهي بنا التحليل مع ذلك وبالذات لدى دعاتها والمستفيدين منها على حماية «المصالح القومية» على حساب «المصالح القومية» لمن هم موضوع لها. والمس بالمصالح القومية ينطوي بالضرورة على المس بالهوية، باعتبار أن الهوية ليست جوهرا ثابتا، بل هي جماع عناصر متداخلة منها قوام وجودها. على أن العولمة ليست مجرد نشاط تجاري مالي اقتصادي، بل هي اختراق ثقافي شامل.. وهنا تكمن المسألة.
 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,326,793

عدد الزوار: 6,987,237

المتواجدون الآن: 69