مآسي الوحدة والانقسامات الدموية المستمرة

تاريخ الإضافة الأحد 8 شباط 2009 - 9:13 م    عدد الزيارات 1392    التعليقات 0

        

\"\"

لقد حصد ذلك الاقتتال آلاف الأرواح وتسبب بنزوح عشرات الألوف إلى اليمن الشمالي المحكوم بنظام قبلي- إسلامي متشدد. غير أن قائمة ضحايا وآثار تلك الحوادث الدامية لا تزال مفتوحة. فذلك الصباح لم يكن سوى فاتحة لحروب وصراعات تواصلت حتى يومنا هذا. وإذا كان تاريخ 13 كانون الثاني قابلاً للوصف في ظل استمراره حياً ومتواصلاً في حياة اليمنيين الجنوبيين، فإن أقل ما يوصف به أنه اليوم الذي لم تغرب شمسه على عدن رغم مرور قرابة ربع قرن على صباحه.

لقد تغير مصير الجنوب والجنوبيين بشكل نهائي وقاطع بعد ذلك اليوم من العام 1986. فهو مثل ذلك اليوم بؤرة ضغط على "اليمن الديموقراطي" لدخول وحدة مستعجلة وغير مدروسة مع الشمال مطلع تسعينات القرن الماضي. وعند اندلاع الحرب الأهلية بين طرفي الوحدة بعد 4 أعوام من إعلانها، مثّل 13 كانون الثاني الورقة الحاسمة التي استخدمها الطرف الشمالي في الانتصار على شريكه الجنوبي وفرض صيغة جديدة لوحدة ثانية قامت على أنقاض الأولى. وبعد استتباب الأمور لصالح المنتصر الشمالي وانفراده بمقود الواقع الجديد، ظلت ورقة ذلك اليوم في متناول اليد على طاولة القرار في صنعاء، عاصمة اليمن الموحد منذ 1990، وعاصمة الشمال قبل ذلك. ثم، حين خرجت الاحتجاجات الجنوبية ضد صيغة الوحدة الثانية التي تصاعدت من أنقاض حرب صيف 1994، كان استخدام هذه الورقة بالذات من قبل صنعاء الشمالية، السبب المباشر وراء انطلاق الاحتجاجات. وعلى الرغم من أن حركة الاحتجاجات الجنوبية انطلقت عملياً بعد أكثر من عام من محاولات توحيد الفرقاء الجنوبيين، إلا أن الضربة التي وجهتها صنعاء منتصف العام الماضي لخط سير الاحتجاجات، تمحورت حول استخدام ورقة الانقسام الجنوبي في 13 كانون الثاني 1986.

\"\"

في الذكرى 23 لحوادث 13 كانون الثاني 1986 التي مرت قبل أسبوعين، سقط 5 جرحى واعتقل أكثر من 400 شخص من الجنوبيين خلال منع قوات الأمن اليمنية إقامة مهرجان جماهيري كان مقرراً انعقاده بالمناسبة نفسها في عدن. وكان مهرجان مشابه عقد في المناسبة نفسها العام الماضي انتهى- وفقاً لإحصائيات المرصد اليمني لحقوق الإنسان- بسقوط 3 قتلى و16 جريحاً واعتقال 28 شخصاً على أيدي قوات الأمن. وتتجه السلطات اليمنية إلى منع وقمع هذا النوع من التحركات لأنها تأتي في إطار حركة الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإنهاء السياسات التمييزية ضد الجنوب وأبنائه. بل إن إحياء ذكرى 13 كانون الثاني 86، لايزال تقليداً حديثاً في الجنوب لم يبدأ العمل به سوى في الذكرى 20 لتلك الحوادث التي صادفت 2006 ، وخرجت منها حركة جنوبية جديدة تستهدف تنظيم اللقاءات السياسية والشعبية بين الفرقاء الجنوبيين تحت اسم "لقاءات التصالح والتسامح". والحركة هذه لم تأت إلا كردة فعل على ما اعتُبر محاولة من الحكومة المركزية في الشمال إحياء الشروخ والثارات الجنوبية - الجنوبية لإدامة سيطرتها على الجنوب. وقد قامت هذه الحركة على هدفين رئيسيين: توحيد فرقاء صراعات الماضي الجنوبية - الجنوبية، وخصوصاً فريقي 86، والخروج بموقف جنوبي موحد رافض لصيغة الوحدة الثانية ومطالب بمعالجة آثارها. ومن هنا تبرز الأهمية السياسية الكبيرة لهذه الحركة، إذ لأول مرة في تاريخ الجنوب ما بعد الاستقلال، ترتكز حركة شعبية سياسية في مطالبتها بمعالجة العلاقة الوحدوية مع الشمال، على سعيها لمعالجة الانقسامات الجنوبية أولاً. ففي الحقيقة، ولسوء الحظ، أن الوحدة اليمنية لم تقم إلا على انقسام الجنوب على نفسه.

\"\"

في 13 كانون الثاني 86، شهدت عدن حوادث دامية في لحظة انفجار كبرى للتناحر على السلطة بين جناحين داخل الحزب الاشتراكي، وهو الحزب الماركسي الوحيد الذي تمكن من الحكم منفرداً في بلد عربي. ولم تنته الحوادث، بعد نحو أسبوعين على اندلاعها، إلا بعدما حصدت بين 10- 12 ألف قتيل وأضعافهم من الجرحى، بحسب التقديرات السائدة. غير أن هؤلاء الضحايا لم يمثلوا، في الواقع، سوى مقدمة مكثفة لقائمة طويلة من الضحايا، إذ إن 13 كانون الثاني كان فاتحة لحوادث وحروب جنوبية- جنوبية قادمة. وقد نجم عن ذلك كله أمران: نزوح عشرات الألوف من اليمن الجنوبي إلى اليمن الشمالي الذي استخدم النازحين في بسط سيطرته على الجنوب.

انتهت تلك الحوادث بخسارة جناح الرئيس علي ناصر محمد الذي عرف بفريق "الزمرة" لصالح الجناح الذي عرف- في المقابل- بـ"الطغمة". وقد أرسلت هذه النتيجة الرئيس الجنوبي وفريقه - بقياداته وكوادره العسكرية والسياسية وجنوده مع عائلاتهم غالبا- في نزوح جماعي مأسوي إلى الشمال (لا توجد إحصائيات لعدد النازحين جراء تلك الحوادث، إلا أن التقدير المتداول يدور بين 75 - 100 ألف نسمة، رجالاً ونساء وأطفالا). لم تتوقف عمليات النزوح في السنوات اللاحقة، بل إن "الزمرة" بدأوا عمليات استقطاب لبعض القيادات في عدن، ما شكل ثقلاً جنوبياً معارضاً في الشمال لنظام الحكم الجديد هناك. وقد بدأت "الزمرة" في تجهيز نفسها للعودة إلى عدن والإطاحة بـ"الطغمة". إلا أن استعدادات "الزمرة" كانت تصب في صالح النظام الشمالي الذي كان يملك أجندة أخرى.

بالنسبة إلى الشمال، مثل الجنوب عقدة دائمة له لعدة أسباب، بينها: رجحان كفة قوة جيشه المنظم على الجيش الشمالي المهزوز بالانتماءات القبلية، وهذا ما عززته مناوشات وحروب السبعينيات بينهما، وكانت الغلبة فيها للجنوب الأقل كثافة سكانية. لهذا مثلت حوادث العام 86 فرصة تاريخية مثلى أمام الشمال. ومع أن دور صنعاء فيها ما يزال غير معروف بمعلومات دقيقة وموثقة، إلا أن استغلالها لها بدأ إثرها على الفور. وقد أدلى رئيس وزراء حكومة الوحدة الأولى حيدر العطاس، الذي شغل موقع الرئيس الدستوري لليمن الجنوبي بين (1986-1990)، ببعض التفاصيل المفيدة في هذا الخصوص. ففي لقاء أجرته معه في القاهرة صحيفة "النداء" الأهلية اليمنية قبل نحو شهرين، تحدث العطاس عن ضغوط مارستها صنعاء على عدن منذ نهاية 1986 من أجل إعلان الوحدة بينهما بحجة "أن الوحدة ستضع حدا للمشاكل". كانت صنعاء في صف "الزمرة" وكان الجنوب قد فقد في تلك الحوادث أهم قياداته وكوادره السياسية والعسكرية في الاقتتال والإعدامات والإخفاءات القسرية التي أعقبته، ومن بقي حياً كان نازحاً في الشمال يحلم بالعودة. وهو الحلم الذي حظي بدعم صنعاء بموازاة ضغطها على عدن من أجل إقامة وحدة عاجلة بينهما. لكن، ولأن صنعاء كانت تعاني ضعفاً شديداً جراء الحوادث، فقد واجهت الضغوط السياسية الشمالية عليها باقتراح تأجيل الوحدة 10 سنوات ريثما يتم دمج مصالح الشعبين. ووفقاً للعطاس، فقد وافق الرئيس صالح مبدئياً- خلال لقائه به في صنعاء أواخر 1987- على هذا الاقتراح. إلا أن ما حدث بعد ذلك ترجم شيئاً آخر غير الموافقة.

ففي 1988، وبينما كانت مباحثات الوحدة جارية بين النظامين الشمالي والجنوبي، سمح الأول لـ"الزمرة" بتصعيد تهديدهم للجنوب عبر تشكيل معسكرات "مستقلة" (ألوية الوحدة) على أراضيه. بدأت هذه المعسكرات استعداداتها لتحقيق حلم العودة والثأر مرددة شعار "يا طغمة يا يهود.. علي ناصر سيعود". غير أن ما تحقق بعد عامين لم يكن حلم "الزمرة" بل حلماً آخر.
   
\"\"

بحلول نهاية 1989، وقعت صنعاء وعدن على اتفاق وحدة اندماجية. وفي 22  أيار 1990، جاء الحزب الاشتراكي بالجمهورية الجنوبية إلى صنعاء ليعلن الوحدة مع نظام الرئيس علي عبدالله صالح الذي كان قد طوى 12 عاماً في حكم الشمال بالتحالف مع الإخوان المسلمين. وبموجب اتفاق الوحدة، اقتسم الطرفان سلطة "الجمهورية اليمنية" الموحدة بمركزية شمالية (صارت صنعاء عاصمة الوحدة واحتفظ الشمال بالموقع الأول). وسرى اتفاق الاندماج على كافة مؤسسات الدولتين باستثناء مؤسستي الجيش. وعموماً، فقد أتى حدث الوحدة معاكساً تماماً لحلم "الزمرة" وأصاب شعارهم فجأة بالخَـرَسْ، إذ مثل عملياً لحظة إقصاء ثانية لهم بعد لحظة 86.

لم يكن الحزب الاشتراكي ليقبل دخول الوحدة مع شريكه الشمالي في ظل تمتع "الزمرة" بالامتيازات الشحيحة المتاحة لهم في الشمال. لذا، لم يرتفع علم اليمن الموحد حتى كان "الرئيس الشرعي" علي ناصر محمد قد ودع فريقه بخطاب تاريخي، وغادر صنعاء، ليس إلى عدن منتصراً كما في الشعار، وإنما لاجئاً إلى سوريا. ولما كان من المستحيل إرسال "الزمرة"- وهم بعشرات الألوف- بعد زعيمهم إلى دمشق، فقد جرى إلغاء معسكراتهم ودمجها بالجيش الشمالي. وبهذا، حقق نظام الرئيس علي عبد الله صالح نقطتين مزدوجتين في صالحه على حساب شريكه الجنوبي. فمن جهة، ساهم هذا في توسيع الشرخ بين فريقي كانون الثاني 86 الجنوبيين. ومن الجهة الأخرى، عزز جيش الشمال وقراره السياسي بحليف جنوبي سيلعب دوراً حاسماً لصالحه عندما تحين مواجهته مع شريكه الجنوبي في الوحدة. وهي مواجهة لم تتأخر كثيراً في بلد مضاد للشراكة لا يقبل واقعه قسمة المسرح على اثنين.

\"\"

لم تستمر حفلة الوحدة طويلاً، إذ سرعان ما بدأت الأزمة بين شركائها في التصاعد. وفي 1992، أخذت الأمور منحى آخر: بدأ مضمار دامٍ من الاغتيالات التي استهدفت، حصرا، قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي. ولم يحل العام 1993 حتى كان عدد من اغتيل منهم قد بلغ نحو 150 شخصاً. لكن الطرف الجنوبي في الوحدة لم يرد بعمليات مماثلة، بل ظل يطالب شريكه الشمالي بضبط الجناة وفتح التحقيق، في حين التزم الأخير بالرد بعدم مسؤوليته عن هذه الاغتيالات، معتبراً أنها عمليات ثأر جنوبية- جنوبية على خلفية حوادث كانون الثاني 86 تقوم بها "الزمرة" ضد خصمها في تلك الحوادث. وفي الواقع، فقد نجح الطرف الشمالي، بقيادة الرئيس صالح، في استخدام تاريخ نظام الاستقلال الجنوبي والحزب الاشتراكي، أيما استخدام، ضد الإشتراكي والجنوب معاً، وهو التاريخ الذي وفر له أكثر من ورقة جنوبية ضد شريكه في وحدة 90.

إضافة إلى مقصيي حوادث كانون الثاني (الزمرة)، استخدم الرئيس صالح ضد الاشتراكي ورقة المقصيين الجنوبيين ما قبل 86، وهؤلاء كانوا قد واصلوا تباعاً التوافد على الشمال وبلدان الخليج وغيرها منذ اقتتالات الستينات بين فصائل الكفاح المسلح الجنوبية قبيل استقلال "اليمن الديمقراطي" في 1967.

\"\"

 بدءاً من العام 1991، أي بعد عام واحد فقط على إعلان الوحدة، أعيد عدد كبير من الجهاديين الأفغان- يمنيين جنوبيين وشماليين أيضا- من أفغانستان إلى اليمن بهدف محاربة "الشيوعيين"، وهي الحرب التي خاضها أيضاً حزب الإصلاح الإسلامي (أخوان مسلمون) على الصعيد السياسي والتكفيري وصولاً إلى المساهمة الفاعلة في القتال. وهكذا، فقد واجه الاشتراكي جبهة عريضة من الخصوم، ستتضح أكثر عشية اندلاع الحرب الأهلية في صيف 1994 التي حشد الطرف الشمالي فيها كل الأوراق المتوفرة ضد الاشتراكي. حتى إن أسامة بن لادن، وهو سعودي من أصول يمنية جنوبية، تباهى شخصياً بدوره الفاعل في حرب 94 التي أنهت ما تبقى من عهد الحزب الاشتراكي العلماني ومعه صيغة الوحدة الأولى. غير أن شركاء الرئيس صالح في تلك الحرب التي دشنت الوحدة الثانية، أو ما تصفها الاحتجاجات الجنوبية بـ"وحدة حرب 94"، سيتعرضون لاحقا لمصائر شبيهة بمصير الاشتراكي، وإن بدرجة أخف، وهو ما سيقود بعد سنوات إلى احتجاجات جنوبية متواصلة ضد صيغة الوحدة الثانية التي قامت على انقسامات الجنوب. لكن هذه الاحتجاجات، التي انطلقت عملياً مطلع 2007، طالت بتهديدها ولا تزال الوحدة الأولى. فرغم أنها بدأت بالمطالبة بإنهاء واقع ما تصفه بـ"وحدة حرب 94" والعودة إلى وحدة 90 باعتبارها "وحدة الشراكة السلمية بين الشمال والجنوب"، إلا أن اتجاهاً جنوبياً سرعان ما شق طريقه وسط الحركة الاحتجاجية مطالباً باستقلال الجنوب، وهو الاتجاه الأعلى صوتاً داخل الاحتجاجات.

لقد صبت جملة الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وبينها انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، في صالح الطرف الشمالي، إذ مكنته من إقامة وحدة اندماجية مع الجنوب بمركزية شمالية في 1990. غير أن انقسام الجنوب على نفسه في 13 كانون الثاني 86 كان نقطة الارتكاز التي قامت عليها الوحدة اليمنية الأولى والثانية.

\"\"

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East..

 السبت 11 أيار 2024 - 6:24 ص

..How Iran Seeks to Exploit the Gaza War in Syria’s Volatile East.. Armed groups aligned with Teh… تتمة »

عدد الزيارات: 156,851,777

عدد الزوار: 7,045,236

المتواجدون الآن: 79